رفع الله شأن الإنسان ووهبه عقلًا يزن به الصحيح من السقيم، ويعقله عن الفساد، ويحجزه عن الضرر، وجاء الإسلام متوافقًا مع الأخلاق التي يقرها العقل السليم، ويشهد على ذلك ما قاله أكثم بن صيفي –من حكماء العرب- في دعوته لقومه إلى الإسلام: "إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن دينًا لكان في خلق الناس حسنًا". لكن الله –تعالى- لم يجعل العقل سبيلًا أوحد للوصول إلى الحقيقة، إذ إن أداة العقل تُحد بحدود ضيقة يقصر على أي إنسان أن يحيط بكل شيء بسببها.
كما أقر الإسلام أهمية ضمير المرء ووازع الردع عن الحرام، كما جاء في الحديث: "والداعي مِنْ فوقٍ واعظُ اللهِ في قلْبِ كُلِّ مسلِمٍ"، والحديث الآخر: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". وقد أقر القرآن هذه الحقيقة أيضًا في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} لكنه لم يكتفِ بتشريع الضمير كحاكم نهائي على الأخلاق، فالضمير قابل للتلاعب والخداع وأحيانًا الموت، كما أن الإلهام الداخلي لا يمكن الاتكاء عليه بشكل موضوعي، وإنما يعتمد على التجربة الذاتية البحتة.
وأخبرنا الإسلام كذلك بحيوية الفطرة الإنسانية في تذوق المعاني الجبلِّية التي يتفق عليها كل ذي فطرة سليم، ففي حادثة الإسراء أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن سيدنا إبراهيم عرض عليه إناءً من لبن وآخر من خمر، ثم خيّره بشرب أيهما فشرب النبي -صلى الله عليه وسلم- من إناء اللبن، فقال له سيدنا إبراهيم: "هُدِيتَ الفِطْرَةَ، أوْ أصَبْتَ الفِطْرَةَ".
لكن الإسلام لم يجعل الفطرة المصدر الأساسي للتشريع الأخلاقي كذلك، إذ إن فِطَرة الناس معرضة للتشوه والاختلال والإفساد بفعل العوامل الاجتماعية والثقافية المختلفة.
فإذا لم تكن جميع هذه الأدوات مصدرًا للإلزام الأخلاقي للإسلام، فما هو الحَكَم في تقرير الأخلاق الصحيحة من تلك الفاسدة؟
استند الإسلام إلى القرآن والسنة في مرجعيته الأخلاقية الحاكمة على جميع السلوكيات الإنسانية، فالوحي في العقيدة الإسلامية هو نور الفطرة الذي يهدي الضمير، ويرشد العقل إلى ما ينفعه في الدنيا والآخرة، فلا يعرف أحد جوهر النفس وشريعة سعادتها وكمالها غير خالق وجودها ذاته، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
إن مصدر الإلزام الجوهري في الأخلاق الإسلامية هو الوحي الإلهي، رسم الإسلام منهجًا صارمًا للأخلاق لا يعوز الإنسان بعده شيئًا، فالقرآن لا يكتفي بوضع قاعدة للسلوك، وإنما يرسي عليها بناءً ضخمًا من القواعد أعظم متانة وأشد صلابة، والإنسان يدور مع النص الشرعي حيث دار {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ}.
والضلال كل الضلال في التخلي عن شريعة الوحي الرباني لأجل أي منهاج بشري قاصر، فإذا هجر الإنسان منهاج الله فبأي منهاج يسير؟ وإذا تخلى البشر عن حاكمية الشريعة الربانية، فإلى أي شريعة يحتكمون؟
وبهذه القاعدة الربانية في الاحتكام أولًا وأخيرًا إلى شريعة الله، يضرب الإسلام النظريات الفلسفية الثلاث، التي استعرضانا في المقال السابق في مقتل، فمن ناحية، يحارب الإسلام بشدة اتباع الإنسان لهواه الشخصي، فإن النوازع النفسية تميل في الغالب إلى استجلاب أكبر قدر من اللذة الشخصية، واستبعاد أي قدر ممكن من الألم دون اكتراث بآلام الآخرين، الأمر الذي تؤمن به الفلسفة النفعية.
وعلى النقيض، يأمر ربنا تعالى الناس بكبح جماح الهوى، والانقياد للشريعة، وتقوى الله في السر والعلانية دون الالتفات للهوى الشخصي، فإن ذلك هو طريق النجاة وسبيل الحياة: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}.
وتتكامل الرؤية الأخلاقية للإسلام بفكرة المسؤولية الشخصية تجاه هذا الإلزام الأخلاقي للنصوص الشرعية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. ونصّ القرآن على حقيقة المسؤولية وما يترتب عليها من الثواب والعقاب في ألفاظ تامة الوضوح: {مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}.