فلسطين أون لاين

"شذا" في تجربتها الإعلامية الأولى نقلت خبر استشهاد شقيقها "معتصم"

...
الصحفية "شذا" في تجربتها الإعلامية الأولى نقلت خبر استشهاد شقيقها "معتصم"
جنين - غزة/ يحيى اليعقوبي:

عاد معتصم صباغ (22 عامًا) لمنزله فجر الثلاثاء الماضي، وخلد للنوم بعد ليلة أمضاها في جوٍّ بارد على منطقة الجبل، على أطراف مخيم جنين شمال الضفة الغربية مرابطًا برفقة بعض المقاومين في نقطة رصد لتحركات جيش الاحتلال، قطع غفوته أصوات تكبيرات وصفارات الإنذار معلنة بدء اقتحام جيش الاحتلال للمخيم.

وقفت والدته أمامه محاولة ثنيه عن الخروج: "تطلعش الجيش حولينا وفي الشارع"، أنصت لمخاوف والدته المنبعثة من قلبها، لكنه لم يتحمل رؤية مركبات جيش الاحتلال تمر من أمام منزله دون أن يهبَّ للتصدي لها.

تروي أمه بصوت مخنوق ومصحوب بالبكاء لصحيفة "فلسطين": "خرج لمدة ساعة ونصف ثم رجع للبيت، وطلب مني إدخال شباب للبيت بسبب القناصة وخرج".

تحوّلت مخاوفها لرجاء: "دير بالك على حالك يما" قابل ذلك بمزيد من كلمات دافئة: "هيني بالحارة مش حبعد"، تتردد أصوات الرصاص الكثيف في ذاكرتها: "حدث الاشتباك، وكان مقبلًا غير مدبر، ولم يبقَ في مخزن الرصاص إلا طلقة واحدة".

اقرأ أيضًاكتائب القسام في جنين تكرّم والدة الشهيد القسامي معتصم صباغ

"روت لي جارتنا، أنه كان يطلق النار تجاه مركبتين لجيش الاحتلال ويناورهم من درج منزلها، وسجّلت كاميرات المراقبة بالمنطقة وهو يتقدم نحو أحد الجيبات ويطلق الرصاص نحوه، وفي أثناء انسحابه أطلقوا عليه رصاصة اخترقت صدره، واستُشهد على باب منزلها وكان يردد الشهادة ثلاث مرات بصوت مرتفع وصل لأذنيها" تستحضر الأم بقية التفاصيل.

عن شخصيته، يغلبها ألم الفقد على ملامح نجلها، التي لن تراها سوى في صورة متحركة في ذاكرة عابرة بلحظات شوق: "هو هادئ بالكاد تسمع صوته، يحافظ على صلاته بوقتها، متزن، المخيم يحبه، شجاع وبطل، لكن لم أتوقع أن يقف أمام جيش ويطلق النار عليهم".

في آخر أربعة أشهر عرضت عليه والدته البحث عن عروس، فرفض، تستذكر: "قال لي (بديش أتزوج، في حوريات بتستناني)، وكان يرفض فكرة إلقاء الحجارة على الاحتلال قائلًا: "إما أن أُقاتل بالسلاح والرصاص أو لا أواجههم".

حرب وتدريب

أنشأت شذا صباغ (20 عامًا) التي تدرس تخصص الإعلام مجموعة إخبارية على تطبيق تليجرام، بهدف تزويد المشتركين بما تشهده مدينة جنين ومخيمها شمال الضفة من أحداث، مستفيدة من موقع منزلها بمنطقة "الجبل" على أطراف المخيم، تعدُّ نفسها لأن تكون صحفية تنقل الحقيقة وتكشف جرائم الاحتلال للعالم عبر الاحتكاك المباشر مع الأحداث.

صبيحة يوم الثلاثاء الماضي وجدت شذا نفسها في ساحة حرب وتدريب في آنٍ واحد، عندما وصل إليها إشعار من إحدى المشاركات وكانت جارتها، تسألها: "أخوك صايرله شي!؟" تسرّبت المخاوف لقلبها المثقوب بالقلق نتيجة السؤال، وردّت: "ما حدا حكالنا شيء"، لكن ظلَّت علامات الاستفهام تراودها عن سبب السؤال المبكر والذي تزامن مع اقتحام لجيش الاحتلال للمخيم ولمنطقتهم تحديدًا.

اقرأ أيضًا: والدة القسامي "صباغ" تتحدث عن مناقبه وتعبّر عن فخرها باستشهاده

لم تمضِ دقائق أخرى حتى جاءت جارة إلى البيت وتكتسي ملامحها نظرات حزن ومواساة، تبعها تجمهر عدد كبير من شباب المخيم أمام منزلهم، ويعلن ارتقاء شقيقها معتصم صباغ (22 عامًا) أحد مقاتلي كتائب الشهيد عز الدين القسام بمخيم جنين.

فبينما كانت نساء العالم ومنهنّ الصحفيات يحتفلن بمناسبة يوم المرأة العالمي (الثامن من آذار)، ذرفت شذا دموع الفقد على رحيل شقيقها معتصم، وفي وقت كانت الصحفيات يقرأن نشرات الأخبار للأحداث حول العالم كانت هي تبثُّ خبر استشهاد شقيقها.

في أثناء تغطيتها للحدث لحظة الاقتحام، كانت شذا تطل بين الفينة والأخرى من النافذة، وتدقق النظر على ملامح شقيقها المقاوم بين وجوه المقاومين، وتقول لصحيفة "فلسطين": "كانت المنطقة ممتلئة بالقناصة، رأيت ابتسامته، ثم اختفى".

شخصية هادئة

امتاز معتصم بشخصية "حنونة وهادئة" مع عائلته، يكوي الوجع قلبها: "في آخر فترة كان يمسك الهاتف ويلتقط صورًا له معنا، وكان يتحدث عن سير الشهداء بشكل يومي، ويلحُّ في طلب الشهادة بشكل غير عادي، وهذا كان سببًا لإحداث خلاف بينه وبين أمي، نظرًا لأننا أربعة أشقاء (ذكران وأنثيان)، فقال لها: "ما بدي منكم شيء، بس سيبوني أطلع وأفوت زي ما بدي".

غلف معتصم شخصيته الهادئة بالكتمان، فحتى شقيقته تفاجأت بخبر استشهاده مقاومًا، تُقر: "كان كتومًا ولا يخبرنا أين يذهب ويكتفي بالقول: "سأخرج لمشاهدة الاقتحام"، وعندما يخرج للاشتباك يقول: "سأذهب للسهر مع الشباب" فكان يذهب للرباط".

تشدها ذاكرتها إلى فرحة شقيقها عندما أهدته سترةً قبل مدة، تستعيد تفاصيل ردة فعله معها، ابتسم صوتها في غمرة الألم: "كان سعيدًا بها وكنت قد تعودت على تقديم هدايا له كل فترة، لكنّ هذه السترة كان يرتديها بجميع المناسبات والسهرات التي يخرج إليها، لأنها "خفيفة ودافئة للجسم"، فسألته ممازحة: على قد ما لبستها، ما زهقت منها؟ وكنت أتمنى أن أقدم له هدية أخرى".

ودّعت جنين في جنازة كبيرة ستة شهداء، بينهم معتصم صباغ وعبد الفتاح خروشة منفذ عملية حوارة البطولية، وصدحت مآذن المساجد بأسمائهم التي تلألأت على صدر تاريخ المخيم، يحفرون بطولتهم على كلّ ركن فيه، بعد رحلة مقاومة طويلة في مقارعة الاحتلال الذي ارتكب مجزرة جديدة في المخيم.