مجزرة نابلس التي اقترفها جيش الاحتلال الإسرائيلي، الأربعاء، في عز الظهر، تعكس أولا وقبل كل شيء، الطبيعة العنصرية العدوانية لهذا الجيش، وفرق القتل التي تدربت واحترفت قتل الفلسطيني تحت لوائه، بغض النظر إن كان هذا الفلسطيني عسكريًّا أو مدنيًّا، رجلًا أو امرأة، طفلًا يافعًا، أو شيخًا على عكاز، إنها فرق يصح تسميتها بـ"فرق الموت"، تقودها كلاب مدربة على اقتفاء أثر الفلسطيني، وتوجِّهها نواظير بنادق مجهزة لقتلِه بالضغط على الزناد.
هذه الفرق تتلقى توجيهاتها وأوامرها العسكرية من السلّم القيادي العسكري، ولذلك لا نشهد تغييرًا في سياسة القتل الإسرائيلية التي تتواصل بمنهجية، على الرغم من تبدُّل الحكومات، في حين ينعكس هذا التغيير ربما في تصعيد هذه العمليات وتكثيف وتيرتها، وربما في إطلاق يد القتلة، بُغية إيقاع المزيد من الضحايا والشهداء في صفوف الفلسطينيين، وإخراج هذه العمليات بـ"نكهة" أكثر فاشية، تليق بحكومة بن غفير وسموتريتش التي يرأسها نتنياهو.
إنه المنطق الاستعماري نفسه الذي بات يتوحَّد حوله الإسرائيليون، بعد فشل أوسلو، وما يسميه نتنياهو بانتصار نظرية "الجدار الحديدي"، التي تعتمد القوة العسكرية أساسًا في ضمان وجود (إسرائيل)، عبر إخضاع الفلسطينيين والعرب، وهو منطق يجعل الأحزاب الإسرائيلية تتنافس في ما بينها، حول قدرة وحدود استعمال القوة ضد العرب والفلسطينيين، بغية تحقيق المزيد من الأهداف الصهيونية الاستعمارية في فلسطين والمنطقة، انطلاقًا من مقولة ما لا يأتي بالقوة، يأتي بالمزيد من القوة.
من هنا، فإن الادعاء بأن التصعيد على "الجبهة الفلسطينية" هو مجرّد محاولة من حكومة نتنياهو للتغطية على الانقسام الإسرائيلي الداخلي حول "الإصلاح القضائي"، أو "الانقلاب القضائي"، وإعادة توحيد مجتمع المستوطنين حول العدو المشترك، هو ادعاء جارف لأن حكومة اليمين الجديدة، لديها أجندة سياسية لا تقل أهمية عن الأجندة الداخلية، المتمثلة بتغيير النُّخب، وهي أجندة لاقت ترجماتها في الاتفاقات الائتلافية الخاصة بسموتريتش وبن غفير، وتسعى إلى سحب ما تسمى "السيادة الإسرائيلية" على الضفة الغربية، أو على مناطق "ج"، بأقل تقدير، وهو ما يستوجب القضاء على بؤر المقاومة في الضفة الغربية من جهة، والمزيد من إضعاف السلطة الفلسطينية وكسر هيبتها من جهة ثانية.
أما بخصوص الصراع الداخلي الذي "يجتاح" (إسرائيل) تحت يافطة "الديمقراطية" والحفاظ على القضاء، فننصح أن نضعه في نصابه الصحيح، وألّا نطفو فوق حفنة ماء، فهو في جوهره صراع نخب سينتهي بتسوية معينة، تحفظ للنخب القديمة بعض امتيازاتها، وتعطي للنخب الجديدة مكانها وموقعها في مؤسسات الدولة المختلفة، وتعزّز من سلطة الدولة، وتطلق يد السلطة التنفيذية من الكثير من القيود التي تكبّلها في مرحلة تعتبرها النخب الجديدة مرحلة تأسيسية جديدة ل(إسرائيل) ثانية.
وفي السياق، يذكِّر عوفر أديرت ورثة بن غوريون، أن الأخير هو من عارض أصلًا، اعتماد دستور ل(إسرائيل)، وفق ما نصّ عليه قرار الجمعية العامة من عام 1947، المعروف بقرار التقسيم، إذ قام بإلغاء لجنة الدستور، بعد أن كان قد عقد 20 اجتماعًا لهذا الغرض، ودعَم في عام 1950 تصويت الكنيست، بمعارضة حزب حيروت بزعامة مناحيم بيغن (الليكود) على ما عرف بتسوية هراري، التي استبدلت الدستور بقوانين أساس يتم تشريعها على مراحل، وعند الحاجة.
عن هذا الموضوع، يقول الباحث في العلوم السياسية د. سليم بريك في مقال سبق أن نشرته "هآرتس"، أن قرار 181 نَصَّ بوضوح على إقامة "دولتين" مع دستور ديمقراطي لكل منهما، وتم إدخال نصّ بروح هذا الالتزام إلى ما تسمى "وثيقة استقلال (إسرائيل)" وإلى وثائق أخرى أوردت أن صياغة الدستور ستُنجَز حتى الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1948، إلا أن بن غوريون لم يرُق له الدستور، لأنه انشغل ببناء "الأمة"، وليس بإقامة دولة بالمعنى الجوهري للكلمة، وقد رأى بالعرب الذين بقوا في حدود 48، عبئًا على الحركة الصهيونية، وبالتأكيد ليسوا ممن يتوجب منحهم حقوقا مدنية متساوية في إطار دستور مكتوب، فقد كان من المهم له، تقليص عدد العرب قدر الإمكان ومصادرة أراضيهم وأملاكهم، وبالطبع فإن ذلك لا ينسجم مع دستور ديمقراطي يحمي حقوق الإنسان وملكيته.
وبالانتقال من عصر بن غوريون إلى عصر نتنياهو، فإنه من الخطأ اعتبار محاكمته هي التي تقف وراء "الثورة القضائية"، وإن كانت قد عززتها، كما يقول بريك، فهو يتأمل في موروث بن غوريون، ويسعى إلى الإبحار بمجاديفه، بمعنى مأسسة منظومة سلطوية ناجعة (حكومة قوية بدون كوابح)، والقيام بتبديل نخب يغير وجه "الأمة"، وإعادة فلسطينيي الداخل إلى حالة الخوف وعدم الأمان الذي كانت عليه في الأيام الأولى ل(إسرائيل)، وهو يستعمل بن غفير ووزارته التي رفعت إلى منزلة "الأمن القومي"، لهذا الغرض.