فرق كبير بين أن نفهم ما يحدث في (إسرائيل) كمخاض ربما يكون عسيرًا لتحولات سياسية - أيديولوجية في بنية المشروع الاستعماري الاستيطاني (بنية النظام)، ناتجة عن تغيرات ديمغرافية وتوازنات إثنية ودينية جديدة بين المركبات السكانية المختلفة للدولة، قد تنتِج على الأرجح نظاما سياسيا أكثر تخلّفا وتشدّدا في المستوى الإسرائيلي الداخليّ، وأشدّ عنفا وعِداءً ودموية تجاه شعبنا بمختلف تجمعاته في الجليل والمثلث والنقب والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، وبين أن نطفو فوق سطح المياه الضحلة للأزمة، ونحلم بالخراب المنتظَر، والنهاية المرجوّة، والأمل الموعود والبعيد.
يجب أن لا ننسى أنّ (إسرائيل) برغم التحديات الجدية التي تواجهها، وعلى رأسها التحدي الإيراني واللبناني والفلسطيني، فإنها ربما في أقوى أطوارها من النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية، ويزيد من قوتها أن أعداءها الفعليين والمحتملين، ونقصد الفلسطينيين والعرب، أساسا؛ هم في أقصى درجات الضعف والشرذمة والهوان، إلى درجة انتقال بعضهم أو غالبيتهم من معسكر أعداء (إسرائيل) إلى معسكر أصدقائها، ضمن معادلة الصراع الجديدة التي نجحت بتهميش وتحييد الصراع الفلسطيني العربي - الإسرائيلي في المنطقة.
وقد تكون راحة البال التي باتت تتمتع بها (إسرائيل) على الجبهات المصرية والأردنية والسورية والفلسطينية، بشكل جزئي، هي التي سمحت بانتقال الجدل، ومن ثم "الصراع" الذي تمحور بالعادة حول الموضوع الفلسطيني الذي كان يقسم المجتمع الإسرائيلي، بين ما سُمي بـ"معسكر السلام"، المؤيد للتسوية مع الفلسطينيين، وبين المعسكر المناهض للتسوية مع الفلسطينيين. تراخي تلك الجبهات سمح بانتقال الجدل و"الصراع" إلى المحور الداخلي، وعزز من ذلك صعود نخب جديدة، أخذت تصارع على مكانها في المواقع المتقدمة "للدولة"، مكان النخب القديمة.
ومن المعلوم أن جولات الانتخابات المتكررة والعديدة، التي شهدتها (إسرائيل) في السنوات الأخيرة، دارت حول هذا المحور أساسا، بعد أن دفعت خلالها القضية الفلسطينية إلى الهامش السياسي، إثر اندحار ما كان يعرف بمعسكر السلام، وتشكُّل إجماع إسرائيلي مثل برنامج اليمين، قاعدته الأساسية، وكما هو معروف، فقد تُوِّجت هذه الجولات أخيرا في حكومة اليمين الديني الاستيطاني، التي يرأسها نتنياهو، ويشكّل بن غفير وسموتريتش أبرز أقطابها.
وربما أن حالة "التشفّي" التي تسود الشارع العربي بالمعسكر الذي يضمّ النخب "الأشكنازية" الليبرالية، والمتمثل بورثة حزب العمل، الذين أصبحوا يمثلون الفئة المغلوبة و"المضطهَدة" في الصراع الداخلي، ليس نابعا فقط من أن هؤلاء هم من تسببوا بنكبتنا تاريخيًّا، وأقاموا دولتهم على أنقاض شعبنا، واستكملوا احتلال فلسطين في الـ67 فقط، بل في أنهم تراجعوا أيضا حتى عن سلامهم المنقوص في أوسلو، الذي تحوّل إلى مصيبة أخرى على شعبنا، وتذيّلوا لليمين ومشاريعه الاستيطانية والعدوانية، وتحوّل قادتهم إلى خدام أمناء لأجنداته، ابتداء من شمعون بيرس، مرورا بباراك وهرتسوغ، وانتهاء بغانتس ولبيد.
لقد رفض هؤلاء يد الأحزاب العربية التي مُدَّت لهم بعد التوصية على غانتس، تحت ذريعة إسقاط اليمين، وذلك رغم انسحابهم من برنامج إنهاء الاحتلال، والتوصل لتسوية مرضية مع الفلسطينيين، وفضّلوا (بيني غانتس) الالتحاق بحكومة برئاسة نتنياهو على حكومة تستند على أصوات العرب.
نقول ذلك رغم تحفظنا على التوصية على غانتس، وعلى مجمل سياسة التأثير والتغيير التي مارستها الأحزاب العربية، وثبت فشلها، لكن على من زاودوا على اليمين في قتل الفلسطينيين في قطاع غزة، وفي العداء للعرب الفلسطينيين في الداخل واستثنائهم من اللعبة السياسية، وكانوا كمَن يطلق النار على أرجلهم، ومن سعوا إلى استثناء العرب من حركة الاحتجاج بتحويلها إلى غابة من الأعلام الإسرائيلية، أن لا ينتظروا الفرج من العرب الذين ليس لديهم بعد ما يخسرونه، بعد أن خسروا حتى الديمقراطية المقرونة باليهودية في "شعار دولة ديمقراطية يهودية"، الذي حوّله قانون القومية إلى "دولة قومية للشعب اليهودي"، بموافقة ومباركة هؤلاء أيضا.
لقد نجحت (إسرائيل) في تسويق "قانون القومية"، وغيره من القوانين العنصرية المعادية للديمقراطية، من دون أن تتأذى سمعتها في "العالم الحرّ"، ولن يعدموا تسويق قانون اللامعقولية والرزمة المرافقة لها، تحت جنح التحولات الجارية في النظام الديمقراطي اللعين، ممثلة بصعود "النيولبرالية واليمين في العديد من دول العالم، وكم من موجات احتجاج اجتاحت دولا أوروبية أسفرت عن حرق مئات المحلات التجارية والسيارات، ولم تهزّ نظامها، وأعتقد أن الأمر ينسحب على (إسرائيل) أيضا.
هذا، علمًا بأن التحولات التي تعصف بـ(إسرائيل) ستأتي على الكثير من المقولات القديمة، على غرار "جيش الشعب" المزعوم، و"بوتقة الصهر"، و"الثقافة المهيمنة"، وتخلي مكانها لمصطلحات جديدة مثل، "الجيش الاحترافي الفتاك"، و"تعدد الأسباط"، و"دولة تل أبيب"، وغيرها من المقولات التي تناسب المرحلة الجديدة.
إلى ذلك، ستبقى (إسرائيل) دولة الاستعمار الاستيطاني، التي أقيمت في قلب الوطن العربي، لتمزيق وحدته الجيوسياسية وضرب طموحه في التحرر والوحدة والتقدم الاقتصادي، قوية لعقود قادمة، أو حتى يجعل الحالمون مع حلمهم قليلًا من القطران.