منذ توقيع اتفاق أوسلو الذي تنازلت فيه قيادة منظمة التحرير عن الموقف الفلسطيني الثابت منذ عام 1948م بتحرير الأرض العربية الفلسطينية من البحر إلى النهر والاكتفاء عوضًا عن ذلك بدولة على خطوط الرابع من حزيران لعام 1967م التي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة بما في ذلك القدس الشرقية. رغم هذا التحول التاريخي لموقف القيادة الفلسطينية الذي يعد تنازلًا قاسيًا عن الثوابت الفلسطينية بل خيانيًا في نظر البعض، فإن القادة الصهاينة لم يلتقطوا هذا التنازل الفلسطيني التاريخي، ويندفعوا لتأكيده على الأرض من خلال السير عمليًا في مسار السلام بما يحقق الرؤية التي لاقت تأييدًا وموافقة من معظم دول العالم، بما في ذلك الدول العربية التي صدرت موقفها في عام 2002م من خلال المبادرة العربية التي كان عنوانها التطبيع الكامل مقابل قيام دولة فلسطينية وفقًا لاتفاق إعلان المبادئ المعروف باتفاق أوسلو، إلا أن رئيس الوزراء الصهيوني شارون في ذلك الوقت وصف المبادرة بأنها "نكتة"، وقال إنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به.
ربما سلمت القيادات الصهيونية بالتنازل عن قطاع غزة لكونه لا يمثل معضلة أمنية لـ(إسرائيل) لأنه عبارة عن شريط حدودي ضيق معزول يقع على الحدود المصرية ولا يحول دون أي تواصل جغرافي لـ(إسرائيل)، ولكن بقيت المعضلة الأمنية التي تمثلها الضفة الغربية التي تضم مساحة شاسعة من الأرض قياسًا بمساحة فلسطين التاريخية التي لا تتجاوز 27 ألف كيلو متر مربع، وامتدادها من الحدود الأردنية باتجاه الساحل لتصل المسافة ما بين آخر نقطة في منطقة قلقيلية وساحل المتوسط نحو 13 كيلومترًا فقط، علاوة على أن الضفة الغربية منطقة جبلية في معظمها تشرف على السهل الساحلي من الشمال إلى الجنوب، بما يعني القدرة على التحكم التام بهذه المنطقة عسكريًا، والقدرة على قطع خطوط المواصلات، والهيمنة النارية في حال حدوث حرب، ناهيك بأنها -أي الضفة الغربية- تقسم عمليًا الكيان إلى قسمين؛ القسم الشمالي: منطقة حيفا والجليل، والقسم الجنوبي بما يشمل منطقة بئر السبع وصحراء النقب وصولًا إلى أم الرشراش، وكذلك استيعابها لمعظم البحر الميت والأغوار.
هذا الموقع المميز للضفة الغربية جعل منها عقدة أمنية لا يمكن إغفالها من قبل القادة الصهاينة خصوصًا وأن (إسرائيل) دولة قائمة على الأمن وفقًا للعقيدة الأمنية الصهيونية، كل ذلك دفع الحكومات الصهيونية المتعاقبة إلى تعطيل أي حل سياسي يتضمن الانسحاب من الضفة الغربية ومحاولة تكثيف الاستيطان فيها والبحث عن حلول تلبي الحاجة الأمنية الصهيونية ومحاولة إقناع المجتمع الدولي به، ولقد كانت صفقة القرن، التي حاولت الإدارة الأمريكية السابقة تسويقها، نموذجًا لبعض الحلول المطروحة في هذا السياق.
الحاجة الأمنية الصهيونية في الضفة الغربية جعلت من السيطرة الأمنية المطلقة عليها قضية أمن قومي صهيوني، ولذلك رُبط التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية بقضية وجود السلطة الفلسطينية نفسها، بمعنى أنه في حال عجزت السلطة الفلسطينية عن القيام بالمتطلبات الأمنية لـ(إسرائيل)، فإن بقاء السلطة نفسها يصبح مسألة غير ذات جدوى، والسلطة الفلسطينية تفهم ذلك جيدًا، لذلك تردد على لسان السيد محمود عباس عبارات من قبل أن "التنسيق الأمني مقدس"، بمعنى أن بقاء التنسيق الأمني يعني بقاء السلطة نفسها.
وربما التقت الحاجة الأمنية لـ(إسرائيل) مع الحاجة الأمنية للسلطة التي اعتبرت أن أي حالة ثورة أو انتفاضة في الضفة الغربية هي تهديد وجودي للسلطة باعتبارها "حالة فوضى" تهز أركان السلطة في الضفة الغربية، ولذلك اتحدت جهود السلطة مع (إسرائيل) والولايات المتحدة عقب عملية السور الواقي وبعد وصول حركة حماس للحكم في عام 2006م نحو تشكيل قوة أمنية برعاية الجنرال الأمريكي "كيث دايتون" الذي أشرف على تدريب هذه القوة الفلسطينية لتتمكن من بسط سيطرتها على الضفة الغربية، وتكفلت الولايات المتحدة بدعمها بكل ما تحتاج إليه من موازنات مالية وتسليح وتجهيزات لوجستية.
اليوم وفي ظل تفلت قبضة السلطة الفلسطينية على الأوضاع في الضفة الغربية، وازدياد انتشار المجموعات المسلحة في معظم مدن الضفة الغربية، تعود إلى الواجهة فكرة إنشاء قوة فلسطينية تستطيع السيطرة على ما يحدث في الضفة، لكون السيطرة الأمنية الفلسطينية يمكن تغطيتها "بعطاء وطني مصطنع" الأمر الذي يخفف حدة التوتر والتصعيد بين الشعب الفلسطيني والاحتلال، ويبرد الساحة الفلسطينية بما يسمح بعودة الأمور لسابق عهدها؛ الأمر الذي يتيح لـ(إسرائيل) والإدارة الأمريكية استئناف خطة التطبيع مع الدول العربية وتركيز الجهد على الحرب الروسية الأوكرانية بصفتها أولوية للإدارة الأمريكية، وتسكين القيادة الفلسطينية ببعض الدعم المالي والوعود السياسية بالعمل على إنجاز حل الدولتين دون إنجاز أي إجراءات ملموسة في هذا السياق على الأرض.
السلطة الفلسطينية تبدو في هذه الحالة كالمخيّر ما بين الرمضاء والنار، فلا هي قادرة على التحلل من الالتزامات الأمنية مع الاحتلال، لأن ذلك يعني انتهاء دورها ومن ثم تخلي الاحتلال عن فكرة التمسك بوجودها وعليه تفككها بفعل الواقع الميداني، ولا هي قادرة على التصدي للتيار الشعبي الجارف المتجه للمقاومة، خاصة في ظل حكومة صهيونية فاشية متطرفة؛ إذ إن التساوق مع متطلبات هذه الحكومة الصهيونية الأمنية يعني انتحارًا سياسيًا سريعًا.
ومن ناحية أخرى تدرك السلطة الفلسطينية أن التعويل على الإدارة الأمريكية في إنجاز حل الدولتين لا يعدو أن يكون وعودًا لا توجد لها أي تطبيقات على أرض الواقع، وما يزيد يقين السلطة الفلسطينية بميوعة الموقف الأمريكي أنها لم تنجز حتى اللحظة وعدها بفتح مكتب تمثيل منظمة التحرير في واشنطن، وكذلك العدول عن نقل السفارة الأمريكية من (تل أبيب) إلى القدس، وهذا أمر أيسر بكثير من العمل على إجبار (إسرائيل) على المضي قدمًا في تنفيذ حل الدولتين، ربما ليس أمام السلطة الفلسطينية إلا انتظار معجزة المسيح التي تحدث عنها الرئيس بايدن حينما التقى الرئيس عباس في بيت لحم، وذلك يعني أنه ليس أمام السلطة إلا الانتظار لعل الأحداث تأتي بجديد ينقذ السلطة الفلسطينية من هذا المأزق السياسي الذي وقعت فيه، ولكن لا يبدو في الأفق جديد، بل إن الأحداث المنتظرة ربما تكون أكثر صعوبة على السلطة الفلسطينية مما هي عليه الآن.