ما أعلنه رئيس السلطة محمود عباس، في آيار/مايو من عام 2020، من أنّ “منظمّة التحرير، ودولة فلسطين، قد أصبحتا في حلٍّ من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأميركية والإسرائيلية، ومن جميع الالتزامات المترتّبة عليها، بما فيها الأمنية”، لم يتم تحقيقه طبعاً ولم تلتزم به قيادة السلطة الفلسطينية أو عباس نفسه!.
أيضاً، لقد أوقفت "السلطة الفلسطينية" في السابق التفاوض مع (إسرائيل)، لكن ما البديل الذي طرحته؟ لم تُعلن مثلاً التخلّي عن نهج التفاوض لصالح أسلوب المقاومة المشروعة دوليًا ضدَّ الاحتلال! لم تقم بإعادة بناء "منظمة التحرير الفلسطينية" لكي تكون "جبهة تحرّر وطني" شاملة توحِّد الطاقات والمنظمات الفلسطينية المبعثرة.
إنّ أسلوب التفاوض مع (إسرائيل) هو مراهنة على سراب، كما هو أضغاث أحلام لا جدوى منها فلسطينيًّا وعربيًّا. فما هو قائمٌ على أرض الواقع هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضاتٍ أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الكفيل حصرًا بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين الإسرائيلي والأميركي.
لقد وصل نتنياهو للحكم في عام 2009، واستمرّ في الحكم لعقد من الزمن، وها هو يعود الآن لموقع رئاسة الحكومة، بفضل غالبية متطرّفة من الناخبين الإسرائيليين، وعلى رأس حكومةٍ فيها من قادة المستوطنين اليهود الذين يريدون تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ويعملون على جعل الأردن هو “الوطن الفلسطيني البديل”، ويرفضون حتى ما يسمى "حلّ الدولتين" والاتفاقات الموقّعة مع السلطة الفلسطينية. فما الذي تراهن عليه “السلطة” ومعها إدارة بايدن وبعض الحكومات العربية من آمال بـ"حل الدولتين" وبتسوية سياسية للصراع مع المحتل الإسرائيلي؟!
“الأرض.. مقابل المقاومة” ليس هو مجرّد شعار للاستهلاك العاطفي في مقابل شعار “الأرض مقابل السلام”، بل هو واقع حال الصراع العربي/الإسرائيلي منذ قيام الكيان الصهيوني الإسرائيلي قبل أكثر من 70 عاماً. فهذه النتيجة العملية لكيفيّة استرجاع الأراضي المحتلة برزت ساطعةً دون أيّ تشويه من خلال تجربة المقاومة اللبنانية، التي أجبرت (إسرائيل)، في عام 2000، على الانسحاب من الأراضي اللبنانية دون أيَّة شروط أو معاهدات أو تنازلات، ثمّ تكرر ذلك في إجبار المقاومة الفلسطينية المحتل الإسرائيلي على الاندحار من قطاع غزّة في عام 2005.
لكن (إسرائيل) ما زالت تكرّر خطأها التاريخي في محاولة تصفية ظاهرة المقاومة الفلسطينية ضدّ احتلالها الغاشم عوضاً عن إنهاء الاحتلال نفسه.. ومرّةً جديدةً أيضاً تقف الولايات المتحدة وبعض الحكومات الغربية مع (إسرائيل) وخلفها في هذه السياسة المخالفة لكلّ الشرائع والقوانين الدولية التي تُقرّ حقّ الشعوب بمقاومة المحتلّ لها، وكما هي الآن مبررات سياسة “حلف الناتو” في الحرب الأوكرانية.
هذا النهج الإسرائيلي المتواصل والعامل على إنهاء حالات المقاومة ضد احتلالها ليس جهلاً بدروس التاريخ وحقائق الشرائع الدولية، بل هو استمرار في المراهنة على القائم عربياً وفلسطينياً من صراعات وانقسامات. إذ هل كان ممكناً أن تقوم (إسرائيل) بالقتل والتدمير في قطاع غزّة في عدة حروب (وكما فعلت سابقاً عام 2006 في لبنان) لو لم تكن هناك موافقات ضمنية من أطراف دولية وإقليمية على إنهاء ظاهرة المقاومة المسلّحة ضدّ (إسرائيل)؟
فالمشكلة الأساس كانت وستبقى بما هو حاصلٌ فلسطينياً وعربياً من تبعية ومواقف مصلحية فئوية ومن انقسامات وصراعات يبني عليها العدوان الإسرائيلي. والمشكلة كانت أصلاً في حجم التنازلات العربية والفلسطينية التي جرت في المفاوضات والاتفاقيات مع (إسرائيل) على مدار أكثر من أربعين عاماً.
فلِمَ، في الحدّ الأدنى، لا تشترط “السلطة الفلسطينية” والحكومات العربية على مجلس الأمن والولايات المتحدة اعتبار (إسرائيل) دولة محتلّة؟ فهذا توصيف حقيقي ينزع الشرعية الدولية عن المحتلّ الإسرائيلي ويضمن أسلوب حقّ المقاومة.
للأسف، لقد انتقل “الصراع العربي/الإسرائيلي” من تقزيمٍ له أساساً بالقول إنّه “صراع فلسطيني/إسرائيلي” إلى تقزيمٍ أكبر بوصفه الآن صراع (إسرائيل) مع “منظمات مسلّحة”، والأطراف العربية المتعاملة مع (إسرائيل) قبِلت بتجزئة الجبهات العربية وبإلغاء مقولة “الصراع العربي/الإسرائيلي” أو شمولية المسؤولية عن القضية الفلسطينية، فتحوّلت المعاهدات والاتفاقيات مع (إسرائيل) إلى تسويات جزئية منفردة استفادت منها الحكومات الإسرائيلية كي تمارس حروباً وضغوطاً أكثر على الفلسطينيين وعلى الجبهات الأخرى التي لم تشملها بعدُ التسويات، كسوريا ولبنان.
فهل هناك معطيات جديدة في هذه المرحلة تحمل أي بارقة أمل للشعب الفلسطيني غير التي نراها من هذا الجيل الفلسطيني الجديد الذي يهب نفسه في مواجهة القاتل الظالم المحتل؟! إذ أنّ المزيج القائم حالياً من واقع السلبيات الفلسطينية والعربية والدولية، إضافةً إلى طبيعة الحاكمين في (إسرائيل)، لا يُبشّر إطلاقاً بأي حلٍ يؤمل به غير ما يقوم به الشباب الفلسطيني في الأراضي المحتلة. وكيف يمكن المراهنة مستقبلاً على جولات جديدة من المفاوضات إذا كان نتنياهو ومعظم أعضاء حكومته يرفضون وقف الاستيطان والانسحاب من القدس وحقّ العودة للفلسطينيين، وهي القضايا الكبرى؟! ثمّ كيف يأمل الفلسطينيون بموقف أميركي فاعل إذا كانت إدارة بايدن ستتجنّب ممارسة أي ضغط فعلي على (إسرائيل)، وهو الأمر الذي حصل أيضاً مع إدارة اوباما رغم خلافه مع نتنياهو بشأن المستوطنات، حيث تراجعت واشنطن ولم تتراجع (تل أبيب) عن وقف الاستيطان.
وما الذي تقصده المراجع الأميركية المعنية بالملف الفلسطيني حينما تتحدّث عن “أهمّية تقديم التنازلات والتوصّل إلى حلول وسط”، فهل يمكن القبول بنصف انسحاب إسرائيلي من الضفة وشرقي القدس و”نصف إزالة للمستوطنات”، و”نصف حل عادل” لمشكلة ملايين اللاجئين، وبالتالي “نصف دولة فلسطينية”؟!.
إنّ الضغط الدولي المطلوب من "السلطة الفلسطينية" على الحكومة الإسرائيلية يحتاج أولاً إلى ضغط فلسطيني وعربي على واشنطن وعلى المجتمع الدولي عموماً من خلال توفير وحدة موقف فلسطيني وعربي، يقوم على رفض أي مفاوضات مع (إسرائيل) التي ترفض الوقف الكامل والشامل لكلِّ عمليات الاستيطان في كلّ الأراضي المحتلّة، إضافةً إلى إنهاء الحصار القائم على قطاع غزّة، وعلى أن يترافق ذلك مع وقف كل أنواع العلاقات الحاصلة بين (إسرائيل) وبعض الدول العربية، وإعادة إحياء ودعم خيار المقاومة المسلّحة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وبذلك تكون هناك مصداقية للموقف الرسمي الفلسطيني والعربي، وتكون هناك خطوات عربية جدّية داعمة للحقّ الفلسطيني المغتصَب.
لقد أعطت "اتفاقيات أوسلو" عام 1993 لـ(إسرائيل) الاعتراف الفلسطيني بها قبل اعتراف (إسرائيل) بحقّ وجود دولة فلسطينية مستقلّة، وبتسليمٍ من قيادة منظمة التحرير بنصوصٍ في الاتفاقية تتحدّث عن “إعادة انتشار القوات الإسرائيلية” وليس عن انسحابٍ مُتوَجَّب على قوّاتٍ “محتلّة”.
فـ(إسرائيل) أخذت من الطرف الفلسطيني في اتفاق أوسلو كلّ شيء (بما في ذلك إلغاء حقّ المقاومة المسلّحة) مقابل لا شيء عملياً لصالح القضية الفلسطينية.
فكفى الأمَّة العربية والقضية الفلسطينية هذا الحجم من الانهيار ومن التنازلات، وكفى أيضاً الركون لوعودٍ أميركية ودولية يعجز أصحابها عن تحقيق ما يريدون من (إسرائيل) لأنفسهم، فكيف بما يتوجّب على (إسرائيل) للفلسطينيين والعرب.
فالطرف الفلسطيني أو العربي الذي قبل ويقبل بالتنازلات هو الذي يشجّع الآخرين على طلب المزيد ثمّ المزيد.