فلسطين أون لاين

"استُشهدوا أبطالًا ورفضوا الاستسلام"

خاص "غنيم".. أمٌ نزف قلبها مرتين وتخشى الفقد الثالث

...
الشهيدان نور ومحمد غنيم
جنين - غزة/ يحيى اليعقوبي:

لم تتجاوز عقارب الساعة السابعة صباحًا، حتى ارتجّ هاتف فادية غنيم، من بلدة برقين، غرب مدينة جنين شمالي الضفة الغربية المحتلة، على وقع اتصالٍ يقف على طرفه من الجهة الأخرى، ضابط إسرائيلي، يستفز مشاعر الأمومةِ بداخلها: "احنا محاصرين أولادك، انزلي خليهم يسلموا حالهم؛ إذا بدكيش إياهم شهداء" بتنهيدة مشبعة بالأوجاع استجابت له.

حملها قلبها إلى المكان المحاصر في مخيم جنين (يبعد نحو 2 كيلو)، تجر مخاوفها خلفها، وصلت المكان، أوقفتها مركبات عسكرية لجيش الاحتلال وأعادتها من حيث جاءت، ليعود ضابط الاحتلال ويتصل مرةً أخرى، أخبرته ما حدث، أغلق الهاتف، وبدأت الاشتباكات التي انتهت الساعة العاشرة صباحًا الخميس الماضي.

اقرأ أيضًا: حماس تزفُّ شهداء جنين وتؤكد أنَّ الرد على المجزرة قادم

في ركنٍ "آمن" بعيدًا عن رصاصات وقناصة الاحتلال جلست غنيم الأم تراقب الحدث وتودع دعواتها في قلب السماء، بأن يحفظ المولى أولادها الثلاثة التي تفاجأت بوجودهم معًا، تراقب ما يتسرب من الأخبار، تدقق بأسماء الشهداء الواردة تباعًا وأسماء المصابين، يمزق القلق والوجع قلبها. 

اشتباكاتٌ عنيفة، وأرتالٌ عسكريةٌ إسرائيليةٌ تقتحم مخيم جنين، جثثُ شهداءٍ ملقاة على الأرضِ، استهداف الأطفال والنساء، تدمير سيارات مواطنين، انتهى المشهد على وقع أصوات مآذن المساجد وهي تنعى مواكب شهداء ارتقوا في عدوان الاحتلال، فيما بقيت الحسرة تملأ أعين ذويهم حزنًا على رحيلهم.

كان من بين الشهداء نجلاها الشقيقان محمد (28 عامًا)، ونور الدين (25 عامًا) غنيم، في حين أُصيب شقيقهم أحمد (37 عامًا) بحالة خطرة، والأخير أب لأربعة أطفال وينتظر مولوده الخامس.

بعينين تغتسلان بالدموع، تربط على جرح قلبها: "اعتقلوا والدهم قبل عشرة أيام حتى يُسلّموا أنفسهم، الحمد لله طلبوا الشهادة ونالوها، استُشهدوا أبطالًا ورفضوا الاستسلام".

بين البيت والمستشفى

من استقبال المُعزّين في بيت العزاء، إلى الذهاب للمشفى للاطمئنان على حالة نجلها المصاب "أحمد"، تتنقل غنيم بين المكانين لا تستطيع أن تبقى في واحد منهما وقلبها معلقٌ بالآخر، تخشى أن يُضاف جرح ثالث إلى قلبها فيُعمّق أحزانها، وهي التي نامت على جرحين باستشهاد نجليها منذ ليلتين، وقبلهما باعتقال زوجها قبل عشرة أيام بهدف الضغط على أولادها لتسليم أنفسهم، مدّد الاحتلال اعتقاله ستة أشهر.

نجلها شادي (38 عامًا) وهو أكبر إخوته، عاد من مناوبته في جهاز الأمن الوطني الذي يعمل به والده أيضًا، ليجد نفسه يستقبل المعزين وحده هو وشقيقه أمين (32 عامًا) وشقيقاته الثلاث؛ يتنقّلون مع والدتهم بين البيت والمشفى، منذ عشرة أيام لم يتحدث مع أشقائه المطاردين ومضى شهر على آخر لمة عائلية جمعته معهم وكان آخر لقاء يجمع الأسرة.

"لم أرهم منذ شهر تقريبًا بحكم مبيتي بعملي، فقدُ الأخ صعب فما بالك بفقدنا اثنين ولا نعلم مصير الثالث، إخوتي يعرفهم كل من في المخيم بأنهم شجعان، يحبون الخير للجميع، منذ يومين تتحرك صورهم أمامي أستحضر ذكرياتهم".. صوت الفخر ينبعث من شقيقهم شادي غنيم تنصت صحيفة "فلسطين" لصوت الألم المنبعث من أعماقه.

في غرفة العناية المكثفة بالمستشفى، يرقد شقيقه "أحمد" بحالة خطرة بعد إصابته بقدميه فاقدًا للوعي بسبب استنشاقه غازًا سامًّا، في إثر توالي القذائف الإسرائيلية التي أطلقها جنود الاحتلال على المنزل الذي كانوا يتحصنون فيه، أُحرق البيت وتهاوتْ جدرانه؛ يصف حالة شقيقه بأنها "مستقرة" حاليًّا، حسب إفادة الأطباء لهم.

اقرأ أيضًا: الصحة: معظم الإصابات في جنين كانت في الرأس والصدر

"بعد انسحاب الاحتلال ذهبت للبيت المستهدف، بحثت عن إخوتي لم أجدهم، ذهبت إلى المستشفى فوجدتُ الشهيدين محترقين، وجدت صعوبة كبيرة في التعرف عليهم، ثم حمدت الله أنّ أخي الثالث لا يزال حيًّا، وأتمنى أن يعود إلى أطفاله وتستقر حالته أكثر" يتمنى كوالدته ألا يستيقظوا على خبر يزيد على أوجاعهم.

اتصال من السجن

صباح الخميس ذاته، تزامن اتصال والده من السجن مع ورود أسماء أشقائه إليه، لكنه أخفى الخبر عنه "علَّه يأتيه من غيره"، يحرك تفاصيل المكالمة الهاتفية: "لم يكن يعلم تفاصيل ما يحدث في جنين، فاستفسر مني، فأخبرته أنه اجتياح معتاد كما في كل مرة؛ وبعد ساعات عاد للاتصال وأخبرنا أنّ معنوياته عالية ودعا لهم بالرحمة".

يعتقد أنّ هدف العملية كلها هو شقيقه "محمد"، علمًا أنّ الأخير كان استشهاده بأيّ لحظة مُتوقعًا نظرًا لملاحقة الاحتلال له، أما خبر استشهاد "نور" كان مفاجئًا له: "أخي نور يعمل في جنين بالبلد، وهو شاب صغير ربما تأثَّر بالمشاهد التي يراها من جرائم الاحتلال، لكن تفاجأتُ بوجوده مع إخوتي".

عام 2002، انخرط والدهم سامي غنيم الذي أصبح لاحقًا عقيدًا في جهاز الأمن الوطني في صفوف المقاومين ودافع عن المخيم أمام اجتياح قوات الاحتلال له، في إثر ذلك اعتقله الاحتلال لخمس سنوات، فورَّث أبناءه روح الانتماء للوطن وللمخيم، وزرع فيهم بذور الفداء وروح المقاومة.