تشهد الساحة الدولية في الآونة الأخيرة حالة من الاستقطاب وإعادة التموضع في كثير من العلاقات الدولية والفاعلين الدوليين، وبرزت هذه الحالة في السنوات الأخيرة من جراء التغيرات العديدة التي شهدتها الساحة الدولية، والأزمة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا قد أبرزت هذه الحالة من الاستقطاب الواضح بل الاعتداد من بعض الدول بشكل غير معتاد على سلوكها السياسي تجاه أمريكا.
وقد شكلت الزيارة التاريخية للرئيس الصيني شي جين بينغ للمملكة العربية السعودية تطورًا مهمًّا وحدثًا عالميًّا عده المراقبون غيرَ المسبوق من حيث التوقيت والأحداث العالمية، وطبيعة الاستقبال السعودي الحافل بالرئيس الصيني جعل الإعلام الأمريكي يتناول هذه الزيارة بحالة من الذهول والقلق.
فالرئيس الصيني عد هذه الزيارة انتهازًا للفرصة لتعزيز الشراكة الإستراتيجية الشاملة مع السعودية، وهي تأتي في إطار زيادة المواءمة بين (مبادرة الحزام والطريق الصينية) و(رؤية 2030 السعودية)، وأنها ستشكل فتح عصر جديد بين البلدين.
هذه الزيارة قد تشكل تصدعًا للعلاقات الأمريكية السعودية التي تجاوز عمرها الثمانية عقود، والتي بنيت في الأساس على البعد التجاري عبر شركات النفط، وطورها رجال أعمال أمريكيون بالضغط على السياسيين في بلدهم بضرورة تأمين مصالحهم التجارية في السعودية وتطورت العلاقات إلى أن أصبحت في إطار التحالف الإستراتيجي في أواخر الخمسينيات في القرن الماضي.
ورغم مرور العلاقات بين البلدين في كثير من الأحداث والأزمات والمنعطفات مثل حرب 73 وأحداث سبتمبر والتلويح بقانون جاستا، فإنها استطاعت أن تحافظ على حالة من الثبات إلى أن بدأت تتغير هذه العلاقة وتتحول الى الجمود والتراجع وخاصة في عهد أوباما والخلاف الذي ظهر على السطح وتحديدًا في الملف الإيراني وملفات شرق أوسطية أخرى.
وعلى الرغم من أن العلاقة الأمريكية السعودية مبنية على المصالح المشتركة، فإن أمريكا تتعامل في علاقاتها مع شركائها وحلفائها بالفوقية وهذا ما بدأت ترفضه الكثير من الدول منها تركيا والتعامل الأمريكي معها في صفقة طائرات F16 ودعم الجماعات المسلحة، وكذلك دولة الإمارات والمساومة في قضية صفقة طائرات F35 مقابل وقف اتفاقيات كبرى مع الصين في المجال التكنولوجي والمحطة النووية السلمية، فأمريكا تنظر إلى العالم بأنه الحديقة الخلفية لها، والعديد من دول العالم أصبحت لا تقبل هذا النوع من السلوك الأمريكي.
فدول الخليج العربي أصبحت تنظر إلى أمريكا كحليف غير موثوق وتريد البحث في الفضاء المتعدد الأقطاب وهذا الاتجاه يعزز أوراق المقايضة والمناورة لتلك الدول مع أمريكا التي لا تتردد في فرض وصايتها على الدول، فالعلاقة لدول الخليج وتحديدًا المملكة العربية السعودية تسير باتجاه الانفتاح على التنوع بعيدًا عن العلاقات التقليدية التاريخية مع أمريكا.
بات واضحًا وملحوظًا تطور في السياسات الخارجية لدول الخليج نحو التقارب مع روسيا والصين مع المحافظة على بقاء العلاقة مع أمريكا، وهذا التقارب عاق جهود الدول الغربية لعزل روسيا، ما أثار استفزاز وحفيظة أمريكا واتهمت أمريكا السعودية بشكل واضح بأنها تعمل لصالح بوتين وتعزيز موقفه ومنع عزله وخاصة في تسعيرة النفط الشهر الماضي.
فتعزيز الشراكة السعودية الصينية تأتي في إطار المعركة الإستراتيجية بين أمريكا والصين وأن زيارة شي جين بينغ إلى السعودية تدخل الصين إلى منطقة نفوذ أمريكية، ما جعل الرئيس بايدن يصرح بأن أمريكا لم تترك فراغًا تملؤه الصين وروسيا وإيران في إشارة واضحة لمنطقة الخليج والشرق الأوسط، لكن في الحقيقة زيارة الرئيس الصيني وما تبعته من شراكات إستراتيجية تمثل بالنسبة للصين فرصة لتوسيع حضورها الجيوسياسي في الفناء الخلفي السابق لأمريكا.
فهذه الزيارة أحدثت ضجة كبيرة في البيت الأبيض ووسائل الإعلام الأمريكية وعدت CNN الأمريكية أن زيارة الرئيس الصيني للرياض تحمل رسالة ضمنية لأمريكا ولم يخفوا المخاوف الأمريكية من النفوذ الصيني في الخليج والشرق الأوسط وأبدوا قلقهم من الأبعاد الأمنية في التعاون بشبكات الاتصالات ومشاركة الصين في مشاريع البنية التحتية في دول الخليج ومشاريع الطاقة.
فالصحفية الصينية الشهيرة فيحاء وانغ شين وهي مقربة من صانعي القرار، عدت الصين والسعودية مهمتين في العالم وأن بكين بدأت شراكات إستراتيجية مع الدول العربية لمواجهة الهيمنة الأمريكية، وبعثت أمريكا عبر عدد من المسؤولين بتحذير لشركائها في الشرق الأوسط في حال تعاونهم الوثيق مع الصين.
وعبر كولن باول وزير الدفاع السابق عن أن التعاون الوثيق مع بكين ولا سيما في القضايا الأمنية ستكون نتائجه الإضرار بالتعاون مع واشنطن في إشارة واضحة لدول الخليج وتحديدًا المملكة العربية السعودية التي تعد أكبر مصدري النفط للصين، التي تبلغ صادراتها حوالي خمسين مليار دولار سنويًّا.
يأتي التطور للشراكة السعودية الصينية في إطار سعي الرياض لتوسيع تحالفاتها الدولية بما يتجاوز شركاءها التقليديين والتاريخيين، فالمملكة العربية السعودية بدأت في محاولة إعادة تعريف للعلاقة مع أمريكا واللجوء إلى إعادة المكانة والعمل على بناء علاقات اقتصادية وتعزيز العلاقات السياسية مع العديد من التكتلات العالمية، التي كان يشوبها الجمود والفتور في السابق مثل روسيا والصين.
من الواضح أن السعودية تريد إرسال رسالة للطرف الأمريكي بعدم الرضا عن السلوك والسياسة الأمريكية تجاه السعودية وأنه لا خطوط حمراء في فتح أو تطوير أي علاقة مع تلك التكتلات العالمية التي لا تتمتع بعلاقات جيدة مع أمريكا، فالمملكة العربية السعودية تدرك جيدًا ثقلها وحجمها ومكانتها، فهي تتمتع بمزايا ثلاث لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتجاوزها، وهي: الأهمية الجيوبوليتيكية والأهمية الدينية والأهمية الاقتصادية، فهذا التغير الدراماتيكي في السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية أصاب الأخيرة بحالة من الصدمة والدهشة، خاصة أنها لم تتعود هذا السلوك السياسي الذي تريد به المملكة العربية السعودية أن توصل رسالة عدم رضا للسلوك الأمريكي تجاهها، وأن العلاقة يجب أن تكون على مبدأ الشراكة والاحترام المتبادل، وليس على مبدأ الوصاية والإملاء.