فلسطين أون لاين

"مقاومة الذات رأس مال الأسير في السجن"

تقرير رامي أبو مصطفى استثمر 20 عامًا في الأسر وعاد ليكمل الحلم

...
رامي أبو مصطفى استثمر 20 عامًا في الأسر وعاد ليكمل الحلم 
غزة/ هدى الدلو:

بعد عشرين عامًا من الانقطاع خلف قضبان سجن الاحتلال، عاد المحرر رامي أبو مصطفى إلى قسم الهندسة المدنية الذي غادره في العام الجامعي الأخير، معبرًا على إرادته للحياة وأن طريق الألف ميل يمكن استكماله وإن انقطع.

وعما جرى في ذلك اليوم يقول رامي إنه كان متوجهًا لمحاضراته الجامعية كعادته، وعلى حاجز المطاحن تم إيقاف سيارة الأجرة التي يستقلها، "سمحوا لنا بالمرور وبعد أمتار عديدة تفاجأنا بحاجز آخر، بل مصيدة وكمين في منتصف الطريق، أوقفوا السيارات وبدؤوا في التفتيش، وأوقفوني على الحاجز مدة 3 ساعات دون البقية، حينها شعرت بالقلق".

قبور تحت الأرض

اقتيد رامي في 22 أكتوبر 2002 لأحد المواقع العسكرية ومن ثم إلى مركز التحقيق في عسقلان ليبدأ طريقا طويلا من المعاناة.

يقول لصحيفة "فلسطين": "أصعب مرحلة تمر على الأسير هي فترة التحقيق، لكونها أولى المحطات التي يشعر فيها أنه انتقل من مطلق الحرية إلى التقييد والانقطاع عن العالم، عدا عما يمارس فيها من تعذيب نفسي وجسدي".

من داخل الزنازين التي وصفها رامي "42 عاما" بأنها قبور تحت الأرض، تُمارس ضد الأسير أساليب وحشية أبسطها حرمان من النوم ومن الطعام ومن قضاء الحاجة، عدا عن التحقيق لساعات طويلة دون راحة، "هكذا كانت حياتي لشهرين ونصف الشهر عندما اعتقلت، وجهت إليّ العديد من التهم كالانتماء لكتائب القسام، وإطلاق النار على المستوطنات الإسرائيلية، والتصنيع العسكري، وغيرها".

ويتابع: "كنت مدركًا لسياسة الاحتلال ضد الأسير في محاولة كسره. لديه لوحة اتهام جاهزة كبقعة الزيت تتسع وتنتشر، تبدأ من 12 بندا وقد لا تنتهي عند 30 اتهامًا، وكذلك الحكم سواء اعترفت أو لم أعترف، لذا قررت الصمود والتحدي رغم حالة الصراع مع النفس بسبب التهم الموجهة لي".

لم يكن رامي أبو مصطفى يضع في حساباته أن يقع في قبضتهم يومًا ما، رغم توقعه الإصابة أو الاستشهاد، لكن بعد انتقاله إلى السجن شرع في تأهيل ذاته لاستيعاب ما يحدث، وأهل نفسه لسنوات طويلة من الاعتقال، بناء على قاعدة وضعها تنص على أن غضبه وجزعه لن يغيرا من الواقع، لذلك ارتأى أنه لا بد من تهيئة نفسية تتقبل الواقع بعيدًا عن جلدٍ وإهلاك في التفكير.

الأسرى.. مدرسة صمود

ويشير إلى أن ما يخفف من وقع الأسر، وجود زملاء أسرى استقبلوه بحفاوة، وطريقة تعاملهم مع أي أسير يقدم إليهم تعبر عن وعي كبير بخطوة انتكاس الأسير، لذلك يعمل الأسرى على تقديم نصائح وتوجيهات تساعد الوافد الجديد على المهجع للاندماج بواقع الأسر والأسرى، إضافة إلى وجود أسرى من أصحاب الأحكام العالية، "وهؤلاء مدرسة في الصمود" رغم مرور عشرات السنوات على مكوثهم في السجن.

بعد الانتهاء من التحقيق بدأ في معاناة "البوسطة" ذلك القبر الحديدي المتنقل، يكون فيه الأسير مكبل اليدين والقدمين، يمكث فيه لساعات طويلة، ففي الشتاء يكون المقعد الحديدي والبوسطة ذاتها أشبه بثلاجة من شدة برودتها، وفي الصيف كأنك تجلس فوق موقد من النار.

أربعة عشر شهرًا قضاها رامي في مداولات الحكم والتنقل، والنقاش مع القضاة والمحامين، رغم أنه على قناعة أن القضاء لديهم تمثيلي لتبييض صورة "إسرائيل" أمام العالم الخارجي، وأنهم يعطون الأسير حريته في الدفاع عن نفسه.

خطة للمقاومة الداخلية

عشرون عامًا حكم لم يكن يتوقعه رامي، ونظر إليه أنه محاولة إسرائيلية لكسر إرادة الأسير، فوضع لنفسه خطة للمقاومة الداخلية "فهي رأس مال الأسير الأهم حتى لا يستسلم للتفكير"، فاستثمر كل دقيقة له في الأسر لتقليل الخسائر، فحصل على دورات في التلاوة والتجويد، وحفظ القرآن الكريم كاملًا، وحصل على السند المتصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادة دبلوم تأهيل دعاة، وبكالوريوس تاريخ، وماجستير علوم سياسية، وآخر في الاقتصاد الإسلامي، وحصل على استثناء في الانتساب لجامعة أم درمان في السودان للحصول على الدكتوراة في الإدارة الإستراتيجية، عدا عن قراءة الكتب وممارسة الرياضة.

ورغم كل ذلك كانت مشاعر الفقد تزوره، تتملك قلبه أحيانًا، يفتقد والديه وأشقاءه وأقاربه، ووجوده بينهم في المناسبات، "غبت عن عائلتي 42 عيدًا، تزوج جميع إخوتي وأنجبوا وكبر أبناؤهم وعرفوني عمًّا وخالًا لهم من الصور، عدا عن أوقات الحزن عند استشهاد أحباء ووفاة أصدقاء".

يستكمل رامي حديثه: "كنت أتمنى أن أعيش لحظة التحرير والبهجة والسعادة عند دحر الاحتلال من القطاع، أتجول في المناطق التي كان يسيطر عليها، ما زلت أتذكر ذلك اليوم حينما كنت أنا والأسرى نلتف حول التلفاز لمتابعة تلك المشاهد.

وعند اقتراب موعد الحرية، يلفت إلى أن الأسير يعيش أيامه الأخيرة في السجن "مودعًا إخوانًا آزروه وأناسًا عظماء عاش معهم سنوات طويلة، ولازموه في أصعب المواقف، يعز عليه فراقهم ولكنّ عزاءه أنه ذاهب نحو الحرية".

ويؤكد رامي أن الأسرى يعيشون كل يوم وهم يحلمون باليوم الذي سينال فيه كل منهم حريته، حلم بصفقة وفاء تملأ قلوبهم أملًا وتجمعهم بمن تبقى من أهلهم.