عودة بنيامين نتنياهو وسط طقوس الظفر داخليًّا وخارجيًّا لها ما يسوغها. ويمكن القول إن السياسي اليميني الذي أمضى في منصب رئيس وزراء (إسرائيل) أطول مدة، يبدو هذه المرّة أكثر ارتياحًا من كل المرّات التي ترأس فيها الحكومة، رغم أنه يواجه اتهاماتٍ بالفساد والرشوة والاحتيال وإساءة الأمانة. وفي وقتٍ كانت أغلبية التقديرات ترى أنه لن يتمكّن من تأمين أكثريةٍ للحكم من جديد، فهو لديه أغلبية في الكنيست تؤهله ليحكم ولاية كاملة من دون عقبات، وليس هناك خوف من أن يفرّط عقد التحالف الذي التفّ حوله، لأنه "خير" من يعبّر عن نهج اليمين المتطرّف في (إسرائيل) بخصوص الاستيطان وتهجير الفلسطينيين ومواصلة سياسة القتل وتشكيل الحكومة الأكثر يمينيةً في تاريخ (إسرائيل)، ما يثير مخاوف كثيرة داخليًا وخارجيًا، ولكنها مخاوفُ لا يمكن ترجمتها إلى أفعال ومواقف على أرض الواقع. ويبدو من بعض السجالات داخل ائتلاف نتنياهو أن الاهتمام الأساسي لها سيكون منصبًّا على إحداث نقلة مهمة في الاستيطان في الضفة الغربية وممارسة سياسات متشدّدة تجاه فلسطينيي 1948. وبالنسبة إلى الوضع الإسرائيلي الداخلي، سيجري العمل بقوة على قضايا تتعلق بالجهاز القضائي والمحكمة العليا، ومسائل الدين و"الدولة"، والميزانيات للمدارس الحريدية، بما يعزّز قوة أحزاب الصهيونية الدينية.
هناك جو دولي ملائم تمامًا لنتنياهو لكي ينفّذ مشاريعه ومخطّطاته، خصوصًا أنه تمكّن من تهميش السلطة الفلسطينية، وجعلها بلا دور أو حضور في الداخل والخارج، وترجم هذا الأمر بإنهاء العمل باتفاق أوسلو، وتحويله إلى اتفاق أمني فقط، هدفه التنسيق من أجل أمن (إسرائيل). وفي السابق، كان يجد من بين الأوروبيين من لا يوافق على هذه السياسة، ويدعم "حل الدولتين"، ولكن في أوروبا لا يوجد اليوم من هو على استعداد للاختلاف معه. وبالتالي، باتت الطريق مفتوحة أمام نتنياهو لإقصاء السلطة الفلسطينية من المشهد نهائيًا، والأخطر المشاريع الاستيطانية وتشديد سياسات القتل. وهذا أمر كان يجد من يستنكره ويدعو إلى وقفه، ولكن اليوم، في ظل صعود اليمين المتطرّف إلى حكومات وبرلمانات دول أوروبية، مثل فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، لن يكون هناك من يعترض على سياسات نتنياهو، وطالما هو يدّعي مواجهة "الإرهاب والتطرّف" على حد زعمه، سيجد من يتعاطف ويقف معه ويغطّيه سياسيًا، وهذه فرصة ذهبية للقيام بكل ما عجز عنه في السابق. وعلينا أن ننتظر مرحلة مختلفة كليًا في (إسرائيل) وعلاقتها بالفلسطينيين، قوامه التصعيد والحرب، وهذه ورقة بيد نتنياهو سيلعبها بقوة، ما دامت الرياح الدولية تهبّ في اتجاهه.
وفي الأحوال كافة، لا يبدو أن الفلسطينيين لقمة سهلة الهضم، وتقدّم تطوّرات الأشهر الأخيرة صورة مهمة، فقد تبيّن أن الأولوية للشارع الفلسطيني هي المقاومة، وهي خيار وحيد للدفاع عن النفس أمام عنف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والمستوطنين، وستصبح سلاحًا فعالًا يمكن أن يغير في موازين القوى، إذا وحّدت نفسها باتجاه هدف التصدي للاحتلال، كما حصل مع "عرين الأسود" الذين هم نخبة من الجيل الشاب، الذي ينتمي إلى فصائل وحساسيات سياسية مختلفة، وهذا مظهرٌ ترك أثره الإيجابي ورفع من المعنويات وشدّ عصب الشارع، وهو أمر ضروري جدًا في أي انتفاضة قادمة. وتتحمّل السلطة الفلسطينية مسؤولية أساسية في مواجهة المرحلة المقبلة، فهي مطالبةٌ بأن تتبنّى خيار الشارع، وألّا تبقى تنتظر من الإسرائيليين أوهام العودة إلى المفاوضات. ومن القضايا المهمة التي تستطيع السلطة تأدية دور فيها، مسألة اتفاقات التطبيع مع دول عربية، التي يعدها نتنياهو مقدمة لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين، وعليها أن تضع استراتيجية لمواجهة هذا الأمر للحيلولة دون اختراق (إسرائيل) العالم العربي والقفز على حقوق الشعب الفلسطيني.