يبدو أن النتائج الأولية للانتخابات الإسرائيلية قد فاجأت الجميع، الفائزين والخاسرين، ومن المقرّر أن تعلن لجنة الانتخابات نتائجها النهائية في التاسع من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. وهناك ملاحظات تستحقّ التأمل:
أولا، تفيد النتائج الأولية المعلنة في وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن كتلة زعيم تكتل الليكود، نتنياهو، قد حصلت على 65 مقعدا، وذلك قبل فرز حوالي نصف مليون صوت وهي حصيلة الأصوات في المظاريف المغلقة التي يصوّت من خلالها أصحاب الظروف والمهن الخاصة؛ كالمرضى، والأطباء، والدبلوماسيين، ومجنّدين كثيرين.. وتمثل هذه الأصوات نسبة 10% تقريبا من إجمالي نسبة من صوّتوا. وأغلب الظن أنها لن تغير كثيرا في المشهد الحاصل، والذي أصبح واضحا بأنه إقرار بالهزيمة من معسكر الوسط واليسار الذي يتزعمه رئيس الوزراء الحالي، يئير لبيد. وتعني هذه النتائج أن الباب أصبح مفتوحا على مصراعيه أمام نتنياهو، لكي يشكّل حكومة يمين خالصة، إن أراد، وبأغلبية مريحة، شريطة أن يكون مستعدّا لاشتراطات الأحزاب الدينية الثلاثة التي سيكون تمثيلها في حكومة كهذه أكثر من نصف الأصوات، ما يؤهلها لفرض شروطها بالطبع.
والسؤال المطروح: هل يُقدِم نتنياهو على هذه الخطوة أم لا؟ فحزب الليكود، في النهاية، ليبرالي لن يقبل أعضاؤه بالاستسلام لأجندة الأحزاب الدينية، إلا في إطار الموازنات السياسية والاتفاق على حلول وسط ترضي الطرفين في القضايا محل الاختلاف. وقد يكون الحل أمام نتنياهو لتلافي هذه المعضلة، وهي كبيرة، البحث عن شركاء آخرين من الأحزاب الليبرالية خصوصا وأن هناك تلميحات من رؤساء بعض الأحزاب، أو أعضاء فيها، بإمكانية التفاوض مع نتنياهو. وقد نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت عن أعضاء في حزب "يوجد مستقبل" الذي يتزعمه لبيد أن الحزب قد يتواصل مع نتنياهو من أجل تشكيل حكومة تناوب.
في السياق نفسه، هناك تصريحات متضاربة لحزب معسكر الدولة الذي يقوده بني غانتس وجدعون ساعر؛ فخلال الأيام التي سبقت الانتخابات، تكرّرت مداخلات مؤيدين لمعسكر الدولة بأن غانتس سوف يكون مستعدا للتفاوض مع نتنياهو من أجل إنقاذ إسرائيل من سيطرة متطرّفي الأحزاب الدينية على الحكومة المحتملة في حال فوز نتنياهو، كما أن تصريحات غانتس نفسه، في مقابلة صحافية مع قناة سروجيم التابعة للصهيونية الدينية، ظهرت وكأنها محاولة لمسك العصا من المنتصف، حين صرّح بأنه ينتمي للوسط، ولكن مع أجندة أمنية يمينية، وأن حل الدولتين مع الفلسطينيين ليس واقعيا. علاوة على ذلك، فإن تصريحاته بعد وقت قصير من بدء ظهور النتائج الأولى للانتخابات، "سنعمل على إيجاد إطار موسع يخدم الشعب الإسرائيلي" فُسّرت رسالة ضمنية إلى نتنياهو بأنه مستعد لمشاركته في الائتلاف الحكومي، لكنه أكد أيضا على استحالة أن يكرّر تجربة مشاركة نتنياهو في حكومة ائتلافية، ثم عاد قادة معسكر الدولة، غانتس وساعر وغادي إيزنكوت، ليؤكّدوا أنهم سيبقون في المعارضة. في كل الأحوال، الحكم على مدى جدّية هذه التصريحات، والالتزام بها، أو اعتبارها وسيلة للضغط أمر سابق لأوانه.
ومن الضروري هنا أن نفهم أن نتنياهو قد يكون في حاجة لتشكيل حكومة ائتلافية موسّعة، وهذا يرتبط بتوقّعنا أن نتنياهو نفسه ربما لا يقبل أن يكون وجوده على رأس الحكومة، واستمراره فيها، مرتبطا برضى الأحزاب الدينية عنه، واستعداده لتقبل شروطها. ومؤكّد أن نتنياهو سوف يكون أمام اختبار صعب؛ فهو من ناحية لا يريد المغامرة بخسارة جمهور اليمين الإسرائيلي، فالتعهّد الذي قامت عليه حملته الانتخابية، طوال الأشهر الماضية، كان تشكيل حكومة يمين خالصة، وتراجعه يعني اهتزاز ثقة الناخبين في حزبه، وعقابه في أقرب استحقاق انتخابي، تماما مثلما حدث مع ما تبقى من حزب يمينا الذي قادته إييلت شاكيد، بعد اعتزال نفتالي بينت العمل السياسي. ولكن من ناحية أخرى، يدرك نتنياهو أن الإدارة الأميركية لن تكون مرحبة بالتعامل مع مثل حكومةٍ كهذه، وأن مشكلاته السابقة مع الديمقراطيين في أثناء إدارة أوباما سوف تعود إلى الواجهة من جديد وبشكل أكبر بكثير عن السابق.
ثانيا، تتعلق الملاحظة الثانية بالإنجاز التاريخي الذي حققته الأحزاب الدينية؛ فتفيد المعطيات الأولية بأن الأحزاب الدينية (الصهيونية الدينية، وشاس، ويهدوت هتوراه) تمكّنت من تحقيق 34 مقعدا لأول مرة منذ قيام إسرائيل؛ حيث قفزت الصهيونية الدينية التي يقودها بتسلئيل سموطريتش، وإيتمار بن غفير من ستة مقاعد في الانتخابات السابقة إلى 14 مقعدا، في إنجاز غير مسبوق وفق ما صرّح به سموطريتش بقوله: "لقد صنعت الصهيونية الدينية التاريخ اليوم، فلأول مرة في تاريخه منذ قيام إسرائيل يحل الحزب الذي يمثل التيار الديني القومي ثالثا في انتخابات الكنيست". وهذا معناه أن هذه الأحزاب التي كانت تملي شروطها في الماضي، في ظل قوتها المحدودة، على الأحزاب الكبيرة لتكون جزءا من ائتلاف حكومي، سوف تكون لديها القدرة على أن تفرض مزيدا من الشروط حاليا على نتنياهو في ظل تعاظم قوتها. وهذا سوف يؤدّي، في حال تشكل مثل حكومةٍ كهذه، إلى تسارع وتيرة الاستيطان، ومصادرة أراضي الفلسطينيين بشكل أسرع من أي حكومة سابقة، ومزيد من التصعيد ضد الفلسطينيين، واعتداءات أنصار التيارات الدينية الأكثر تطرّفا وغيرهم على المقدسات الإسلامية، ووقف أي اتصال مع رموز السلطة الفلسطينية، إضافة إلى محاولتها فرض تصورها الكامل في مسألة إعفاء خرّيجي المدارس الدينية من التجنيد.
ثالثا، كشفت الانتخابات أن الناخبين الإسرائيليين قد عاقبوا بعض الأحزاب التي لم تلتزم بالأجندة التي انتخبوا على أساسها في المرّة السابقة؛ فلم يتبق لحزب يمينا ذي التوجه اليميني الذي تبدّل اسمه وزعامته أي مقعد من المقاعد السبعة التي حصل عليها سابقا. ويبدو أن الصهيونية الدينية كانت الوريث الرسمي لهذه المقاعد، وهنا تحديدا تتبدّى منطقية ما ذكرته صحيفة سروجيم الناطقة باسم الصهيونية الدينية بأن من أدخل أيليت شاكيد إلى عالم السياسة، رغم أنها كانت صاحبة أيديولوجية علمانية، هو جمهور المتدينين القوميين، حينما ظنوا أنها مخلصة لمبادئ التيار الديني القومي الذي تمثله الصهيونية الدينية تحديدا، ولطالما تنكّرت لهذا الجمهور.
رابعا، حينما نذهب إلى الأحزاب الكبرى الحالية، نجد أن الحزب الرابح الوحيد "يوجد مستقبل"، فقد تمكّن من تعظيم مكسبه عن الانتخابات السابقة من 17 مقعدا إلى 24 أو 25 مقعدا في الانتخابات الحالية، لكن هذا الفوز جاء بطعم الخسارة في ظل تراجع القوى التي كانت تشاركه في الائتلاف الحكومي. أما حزب الليكود فلم يضف جديدا يُذكر، ومع ذلك يشعر بالفوز الكبير، لأن الباب أصبح مفتوحا أمامه لتشكيل حكومة بعدد المقاعد نفسها التي لم تمكّنه، في المرّة السابقة، من هذا الهدف، رغم أنه كان المكلف الأول بتشكيلها.
أما اليسار في إسرائيل فهو أمام أزمة كبيرة وحقيقية؛ فحزب العمل قد تراجع عن الانتخابات السابقة من سبعة مقاعد إلى خمسة، كما يرجّح أن حركة ميرتس، التي حصلت على ستة مقاعد في الانتخابات السابقة، لن تتخطّى، على الأغلب، نسبة الحسم اللازمة لدخول الكنيست. وقد تراجعت قائمة أحمد الطيبي وأيمن عودة من ستة مقاعد (حينما كان التجمع الوطني الديمقراطي شريكا لهما في القائمة المشتركة) إلى أربعة فقط في الانتخابات الحالية، ولم يتخط "التجمّع" نسبة الحسم.
تتطلب هذه الأزمة المتصاعدة التي يعيشها اليسار في إسرائيل، وفق بعض مفكّري اليسار، أن تتخلص قوى اليسار في إسرائيل من وهم القوة الذي جعلها تقبل أن تكون جزءا من الائتلاف الحكومي، وجعلها تتنازل عن مبادئها، فليس هناك جمهور مؤيد لمبادئ اليسار، وتوجّه الشباب أصبح لأحزاب اليمين. على قوى اليسار إذا، وفق بعض مفكّريها، أن تضع نصب أعينها تغيير وعي مؤيديها بأن تعيش بإحساس "الأقلية" الذي يحاول التجمّع الوطني الديمقراطي أن يفعله حاليا، فبناء وعي "الأقلية" لدى اليسار سيجعلها تشعر بالخطر وتدافع عن نفسها، فلا أحد سيدافع عنها، كما أن الأغلبية لن تحميها، بل ستسعى لسحق اليسار تماما إن استطاعت.
خامسا، تشير نسَب التصويت هذه المرة إلى ارتفاع واضح مقارنة بالانتخابات السابقة؛ حيث وصلت النسبة، مع نهاية التصويت، طبقا لأرقام لجنة الانتخابات، إلى 71.3% وهي نسبة أكبر من الانتخابات السابقة 2021 (67.2%) وتقارب نسبة التصويت في انتخابات 2020 (71.5%). هذه النسبة العالية رفعت الرقم المطلوب لتخطّي أي حزب لنسبة الحسم إلى 150 ألف صوت تقريبا، وهو ما أفاد أحزاب اليمين؛ نتيجة عدم قدرة بعض أحزاب كتلة التغيير، بزعامة لبيد، على تخطي هذه النسبة (حركة ميرتس)، أو قلل من عدد مقاعد بعضها (حزب العمل، وإسرائيل بيتنا).
سادسا، يبدو أن العمليات الفلسطينية المتتابعة، واتساع رقعة المقاومة في الضفة الغربية وفي الداخل الإسرائيلي، وظهور حركات مقاومة جديدة (عرين الأسود)، وازدياد أعداد القتلى والمصابين الإسرائيليين جرّاء هذه العمليات كان لها تأثيرها في تغيير مزاج قطاع ليس بالقليل من الإسرائيليين؛ فهؤلاء فضّلوا التصويت لليمين لأنهم، طبقا لكثير منهم، فضّلوا الأمن على الاقتصاد. وبالتالي، أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها ذات تأثير أساسي وكبير في الوضع السياسي داخل إسرائيل.
كذلك، ما أظهرته الانتخابات من نتائج، وهذا الصعود الكبير لقوى اليمين الديني المتطرّف، يظهر أن القضية الفلسطينية لم يعد منتظرا لها أن تنجز شيئا في ظل مفاوضاتٍ عبثيةٍ متوقفة أصلا بين السلطة الفلسطينية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وأن ما يمكن أن يتحقق لهذه القضية يرتبط بما يمكن أن تُنجزه المقاومة في ظل سنوات مقبلة تبدو فيها إسرائيل على موعد مع مزيد من اضطهاد الشعب الفلسطيني وحصاره.