لم نكن بحاجة لاغتيالات نابلس الدامية للكشف عن التاريخ الدموي للاحتلال الحافل بهذه الصور البشعة من التصفيات الجسدية، فهي ليست سياسة جديدة، وسجله حافل بقائمة طويلة منها منذ ما قبل قيام الدولة عام 1948 وحتى الآن، والذاكرة الفلسطينية والعربية لا تزال تتذكر أسماء سياسيين وعلماء ومفكرين ومقاومين راحوا ضحيتها بأساليب وطرق مختلفة.
فيما يتعلق باغتيالات نابلس تحديدا، فإن جيش الاحتلال بات معتقدا أن هذه السياسة التي بدأ يتبعها هي الأفضل له، على صعيد تقليل الكلفة من المواجهة المباشرة مع المقاومين، وفي نفس الوقت تلبي احتياجاته الأمنية، باعتبارها الوسيلة الأنجع لوقف ما يسميها "القنابل الموقوتة".
ليس سرا أن الاحتلال، وقبيل تنفيذه لاغتيالات نابلس تحديدا، قام بتضخيم ظاهرة "عرين الأسود" التي استقطبت العديد من المقاومين، وصوّرها أمام الرأي العام الإسرائيلي والدولي بأنها تشكل تهديدا أمنيا كبيرا، فضلا عن العمل الأمني الاستخباري المكثف لجمع أكبر قدر من المعلومات الميدانية التي تسهل هذه العملية التي استدعت موافقة المستويين السياسي والعسكري.
في ضوء ما صدر من معلومات إسرائيلية شحيحة عن جريمة اغتيال نابلس، يمكن رسم سيناريو افتراضي لمثل هذه العملية من حيث الإعداد والتخطيط والتنفيذ، لا سيما وأن الجيش والشاباك معاً يعتمدان بدرجة كبيرة على مصادر المعلومات التي يوفرها العملاء على الأرض، بجانب الإمكانيات التقنية التكنولوجية للتجسس والتنصت والتعقب.
في مثل هذه الاغتيالات الدامية نستحضر ما كان يحدث في اغتيالات سابقة في غزة، قبيل الانسحاب الإسرائيلي منها، حين كشفت اعترافات العملاء كيف يكلفهم مشغلهم الإسرائيلي بجمع المعلومات المتعلقة بالمقاوم المستهدف، منزله، وسيارته، الطريق التي يمر منها، ومكان عمله، وحين تتكون غرفة العمليات تكون مرتبطة بالعميل على الأرض، وهو من يحدد إن كان المقاوم المستهدف خرج من المكان، أو ما زال فيه، وفي حال استقل مركبة، فما نوعها، ولونها، ومن معه فيها.
في فترة لاحقة، تترك إكمال مهمة المراقبة والرصد للوسائل التقنية الحديثة، ومنها الطائرات بدون طيار التي أعلن الاحتلال عن إعادة إدخالها للخدمة رسمياً في الضفة الغربية، وأصبحت شريكا رئيسا في الاغتيالات، حيث تقوم ببث صور دقيقة على مدار الساعة للمنزل أو للسيارة التي يتحرك فيها المقاومون، فضلا عن استغلال تقنيات وسائل الاتصالات بالتنصت على أجهزة الاتصال الخلوية.
رغم كل ما تقدم، فإن اغتيالات نابلس، وباعتراف الإسرائيليين أنفسهم، لن تنجح في كسر شوكة المقاومة، أو انفضاض الفلسطينيين عنها، وتوقف الالتفاف حولها، مع أن اعتماد الاحتلال لنظرية "كي وعي" الفلسطينيين أتت عليه غالباً بنتيجة معاكسة، ومفادها أن الاغتيالات تشجع المقاومة أكثر من وقفها.