فلسطين أون لاين

دموعُ الانتظار جفَّتْ!

تقرير والدة الأسير "كريم يونس" .. انتظرته 40 عامًا ولم يصل

...
والدة الأسير كريم يونس ترفع قبل مماتها صورة ابنها الأسير
غزة/ يحيى اليعقوبي:

"العائدون إليكِ منذ الفجر لم يَصِلُوا، هناك حمامتان بعيدتان، ورحلةٌ أخرى.. وموتٌ يشتهي الأسرى". (محمود درويش)

أطلقت تنهيدةً طويلة رافقها بخارٌ خرجَ من فمها.. تمنّت أن تخرج همومها كلها مع تلك التنهيدة!، وهي تعد ابنها الأسير في سجون الاحتلال كريم يونس في الاتصال الهاتفي بينهما أن تكون قوية حتى يتحقق حلمها بمعانقته لأول مرة منذ أربعين عامًا، حتى لو ظلَّ الغياب قرنًا من الزمن: "حأضل أستناك يمّا".. بصوتها الخافت حملت أحبالها الصوتية تلك الكلمات وهي على سرير المرض تلفظ أنفاسها الأخيرة، أما هو فأخذ نفسًا عميقًا مليئًا بالألم، ابتسم صوته عبر الهاتف ليمنحها شحنة صبر وإن كان صبرها قد نفد منذ سنوات يذكرها بانقضاء المدة الأطول: "أنا صابر، قوي، يما بس انتِ ارجعيلنا بقوتك، مش ضايل إلا تسعة شهور"

قبل أسبوعين من ذلك الاتصال؛ على كرسيٍ متحرك يجره ابنها الآخر نديم، وصلت الحاجة صبحية (88 عامًا) السجن في زيارتها الأخيرة، كانا يسيران في ممرٍ داخل السجن يجلس كل أسير أمام أمه أو زوجته ويفصل بينهم عازل زجاجي كجدار فصل لا يسمح لهم بعناق أو مصافحة تبرد نار الشوق، ثم أمسك سماعة الهاتف وأمسكت أمه الطرف الآخر من جهة العازل الزجاجي.

يتأمل تعرجات وجهها وجسدها الذي أنهكه الانتظار منذ أربعة عقود، وقد رسم الزمن على وجهها تجاعيد السنين، لكنها رسمت بين تلك الخيوط ابتسامة فرح، تحدثا عن "الفرحة الكبرى" التي تستعد لها العائلة بعد 40 عامًا، كانت تغمرها ضحكة، بينما هو يحاول تخزين صورتها وملامحها بذاكرته، يجتاحه الخوف وهواجس تقلق أفكاره.

الأسير كريم يونس (65 عامًا) عميد الأسرى الفلسطينيين وأقدم أسير في العالم، من بلدة عارة في الداخل الفلسطينيّ المحتل، يغيبه الاحتلال عن العالم ويعتقله منذ عام 1983، حكم عليه بالسّجن المؤبد الذي حُدد لاحقًا بـ 40 سنة، ظلت عباءة الانتظار خلالها تمزق شوق أمه إلى لحظة عناق خارج الأسر.

اقتراب الحلم..

ولأن الأعوام تمر والوقت لا ينتظر أحدًا مرت سنوات أسره في سجون الاحتلال الإسرائيلي، واقترب حلم والدته وبقي تسعة أشهر فقط ليحلق على جناحي الحرية خارج ظلام السجون.

في كل يوم كانت صورته المعلقة على جدارِ غرفتها تخفف عنها وطأة الغياب القسري، وهي تقف أمامها وتلامس أناملها إطارها الخشبي، يشقُّ الانتصار طريقًا في ملامحها ويعانق الشوق صوتها: "ها قد اقترب العناق أخيرًا بني"، تتأمل خطوط وجهه التي كبرت أيضًا، بريق عينيه، توهج ابتسامته، تستذكر رنين ضحكته حينما كان يطوف في المنزل وهو في ربيع شبابه الأول، وتسحب نظراتها ملابس السجن البنية.

وحدها الصورة كانت تسمع هشاشة قلبها المشتاق، ونبضات حنينها المتسابقة على مضمار البعد، كومة مشاعر مؤججة بداخلها أيضًا مع اقتراب الوقت، فرح، حزن، دموع، سهر، انتظار، لا يعلم بثقلها إلا قلبها وتلك الصورة التي جعلتها مساحة لتفريغ مشاعرها كلما اشتاقت إليه، فهونت عليها قبلة على جبينه في الصورة، ويااه لو باستطاعتها أن تحمل عنها ثقل الأيام، لتخبرها أن الوقت حتما سيمر.

لآخر سنة، كانت أمه المسنة تخزن الأغراض التي يحبها ابنها، خزنت له حبات الرمان، الزعتر، الزيتون، الجبن العربي، تنتظره صباح مساء، تريد تعويضه عن أربعين عامًا قضاها خلف قضبان الاحتلال الإسرائيلي، حرمته من كل شيءٍ يحبه.

 عندما فتح  يناير/ كانون ثاني 2022 غرته، وبدأت الحاجة "صبحية" العد التنازلي للأشهر الأخيرة، تحسب الأيام المتبقية بدقة، وكذلك عدد الزيارات، لم تعد تنتظر أن يمن عليها الاحتلال الإسرائيلي بأن يخرجه، فقد دفع ابنها فاتورة محكوميته من سنوات عمره كاملة.

لم يرَ ابنها الآخر نديم والذي يعيش معها والدته ترسم ضحكة، أو تلمع عيناها بالفرح مثل هذه اللحظة، عندما جلس معها وكانت في حيرة من أمرها، "كيف أستقبل كريم!؟" تسأله بلهفة كان الفرح ينتفض من صوتها: "أجي معك نستقبله؟.. ولا أستناه بالدار!" كانت ترسم حفلاً مميزًا لاستقباله، لعله يعوض شيئًا من مرارة الغياب.

 لا زالت تحدث نديم عن مخططها:

- خلينا نروح على قاعة أكبر تتسع لكل المهنئين..

- البيت مش راح يوسع.

نديم، يتأمل وجه أمه، ويتراقص الفرح داخل قلبه، لأول مرة يراها بهذه السعادة، أيدها: "اللي بدك اياه راح نسويه، أكيد الصالة الكبيرة أفضل".

شوق طويل..

أقسى ما يمكن أن يكتب عنه الإنسان بعد الحب هو "الشوق"، وجع لم يشعر به سوى صوت عراكها الداخلي مع الانتظار في شطب كل يوم يمضي إلى غير رجعة، تخوض ملحمة مع 365 يوما كل عام، تشطب عامًا بعد آخر وعقدًا بعد عقد، طوت 480 شهرًا أي أربعة عشر ألفًا و600 يومٍ، مرت أيام كسنوات وكأنها أطول من حيزها الزمني.

كان نديم متفهمًا، لحالة الفرح الكبيرة لوالدته كطفلةٍ صغيرة تقف على أطلال الفرح، لكنها لم تتجاهل وضعها الصحي أثناء الحوار بينهما، تدقس أجراس الرحيل والوداع المحتمل في أي لحظةٍ: "أعيش في صراع مع الموت في أيامي الأخيرة، من سيصل إلى كريم قبل الآخر، أنا أم الموت".

كان وقع كلماتها قاسيًا على ابنها نديم وهي تحرر أشواقها من شفتيها الراجفتين بسبب تقدمها في العمر "بدي أفطر أنا وإياه، بدي أحمله أو يحملني، أكل معه الزيت ورغيف الخبز"، تذكر ابنها أنها لا زالت قوية، فقد تجاوزت آخر وعكتين صحيتين، وتأمل أن تتجاوز الوعكة الجديدة "هياتني قوية.. عشان أشوف كريم".

تتحدى المرض وجسدها المنهك، في معركة غير متكافئة، لا تمتلك فيها إلا الإرادة والعزيمة والشوق، وكلها مشاعر ليستْ كافية لتواصل الانتظار، فالعمر فرض أحكامًا قاسيةً على جسدها، تمامًا كما فرض الاحتلال الإسرائيلي حكمًا قاسيًا على ابنها كريم بسجن أربعين سنةً لم يرَ فيها الدنيا، حتى لم يسمح له بالخروج قبل الموعد المحدد لنهاية الحكم لرؤية والدته قبل أن يخطفها الموت من قلبه.

على مدار أربعة عقود، استطاعت الحاجة "صبحية" التقاط صورتين فقط مع نجلها كريم، واحدة عام 2000، والثانية وهي على كرسي متحرك عام 2017، وكانت دائم الحرص على زيارته، تلحق به من سجن إلى آخر عندما كانت تستطيع أن تحملها قدماها، إذ بلغ مجموع زيارتها له 700 مرة تخرج من الصباح حتى المساء، تلسعها حرارة الشمس وتتحمل مشقة الانتظار لأجل رؤية كريم، فكانت طلته خلف سياج السجن، وابتسامته أمامها، تمنحها شحنة صبر إضافية في كل مرة أكل الشوق قلبها وفتت أعمدة تماسكه.

السادس من يناير/ كانون ثاني 2013، يقيم الأسرى حفلاً تكريميًا لعميد الأسرى كريم يونس بعد اتمامه العام الثلاثين في سجون الاحتلال، اتصالٌ من الخارج ورد إلى السجن زاد المراسم حزنًا، تقدم أحد الأسرى وربت على كتف كريم "بدنا نعزيك بـ.. " قبل أن يكمل الكلمة قاطعه، أخذ الأمر بنوعٍ من اللامبالاة وارتسمت ضحكةٌ على وجهه "بدك تعزيني على ثلاثين سنة أمضيتها بالسجن، الله أعلم يمكن أنتم توصلولها مع اني ما بتمناها الكم"، كان الخبر أقسى من أن يتم التلاعب به "احنا بنعزيك بوفاة والدك"، خبرٌ نزل كالصاعقة عليه.

في بداية التسعينيات كان السجانون يتلذذون في عقاب أهالي الأسرى، تلسعها حرارة الشمس ساعات طويلة، وفي آخر عامين، أجرت أم كريم عملية جراحية في مفاصل القدم، وكانت عاجزة عن الوقوف طويلاً أمام بوابات السجن في محاولة اذلال أهالي الأسرى وقهرهم ساعاتٍ طويلةٍ، لكنها لم تقطع زيارة واحدة، والتي بلغت مجموعها 700 زيارة، تخرج من الصباح الباكر وتعود مساءً، تتحمل طول السفر من شمال فلسطين إلى جنوبها، ومحطات الانتظار، والتفتيش، والقهر.

زيارة قهرٍ..

أدخل نديم أمه وهو يجرها على كرسي متحرك، في غرفة الانتظار التي لا يتوفر فيها تهوية مناسبة لكبار السن مثلها، فمضت ساعة وساعتان وثلاث، كان ضيق النفس أشبه بحبل يلتف على رقبتها، لم تستطع المواصلة أكتر، فاستنجدت به: "طلعني يما مش قادرة" تحول ابنها نديم نحو السجانة الإسرائيلية يطلب منها تشغيل جهاز التكييف، تخفيفا عن والدته.

وقفت المجندة في استخفاف لم ترقق دموع الحاجة "صبحية" قلبها وكأنَّه من حجارة: "خليها تبكي، أو تروّح، بلاش تزوروا".

خرج نديم يجر كرسي والدته المنكسرة، حينما لم يسمح لها بالزيارة، رجعت كطائر مكسور الجناحين، حتى علم الأسرى بذلك، وامتنعوا عن استقبال أسرهم قبل أن تأتي والدة كريم في مقدمتهم، أذعن السجانون لمطالب الأسرى ومرت الحاجة من أمام السجانة بنشوة المنتصرة، كثيرًا ما تكرر هذا المشهد في حياتها.

يقولون إن: "البعيد عن العين بعيد عن القلب"، أم كريم أثبتت عكس هذه المقولة، حتى في لحظات مرضها في آخر عامين، كلما غلبها النسيان وتجاهل أبناؤها تذكيرها، كان كريم حاضرًا في قلبها على الدوام، إن لاحظت أن موعد الزيارة فاتها، تأتي إلى نديم غاضبةً: "هسا، من متى ما زرتش كريم؟.. بدي أطمئن عليه أشوف صحته".

(نديم) الابن الخائف على صحته والدته ينصحها بادخار صحتها: "بتتعبي بدنا تضلك قوية، ما يصيبك ألم، عشان كريم يطلع ويلاقيك".

(أم كريم) بنبرة صوت حادة تسمرت عيناها في عينيه: "بدي أزوره، بهمنيش بعيد ولا قريب، مريضة ولا منيح، لو بتركيا بدي أروحله".

فتحت جفنيها، تأذن لدموعها بالهرب إلى وجنتيها: "الزيارة فرحتي الوحيدة، لما بدخل السجن، وبدخل غرفة الزيارة، أشوف ابتسامة كريم، بتساوي الدنيا، صحتي بتتحسن لما بشوف ابني".

الأنفاس الأخيرة!

على سرير المشفى، نال المرض منها مرةً أخرى، وأحكم قبضته على جسدها المنهك، كان المرض أشبه بمفترسٍ ينقض على فريسته، استسلم الجسد، وبقي القلب يرفع راية المواجهة حتى وهي غائبةٌ عن الوعي، كانت تستيقظ بين الفينة والأخرى تسأل عنه ولا أحد سواه لا ينطق لسانها إلا باسمه "وين كريم، ليش طول!؟.. تايجي"، تتعهد أن تتجاوز الوعكة الصحية كما تجاوزتها في مرتين سابقتين ترافقها دموعٌ غيرت مجرى جريانها من القلب إلى الوجه، لم تستطع حبسها، تشد على أحبالها الصوتية بصوتها الخافت والألم ينخرها وهي تخرج صوتها: "حضلني أستناه".

في الساعات الأخيرة، كانت إشارات جهاز قياس نبضات القلب في غرفة العناية المركزة، كصدى مطرقة، وشبح يقفز إلى قلب ابنها نديم، يمسح دموعه وهو يرى والدته تلتقط أنفاسها الأخيرة، وحتى في آخر الأنفاس ظلَّت تنبض بكريم، تعدد بصوتها سنوات أسره وهي تبدأ بعد الأرقام من منتصف العقد الثالث والنصف تواليًا "35، 36، 37، 38، 39" وكلما وصلت إلى الـ "40" وهم موعد حريته توقفت عن العد وعادت للعد من الرقم "35"، وهكذا استمرت آخر اللحظات.

لم تكن هذه مجرد أرقام، بل هي سنوات عمرٍ وذاكرة وتفاصيلٍ تسترجعها في لحظاتِ الوداع، تخبرنا بجرم السجن وقسوته على الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال وعائلاتهم التي تنتظرهم في الخارج، وفي ثقله على قلوب أمهاتهم اللواتي انتظرنهم عمرًا طويلا.

بعد دقائق، توقف الجهاز عن إرسال اشعارات نبضات القلب، وهدأت أنفاس الحاجة "صبحية" في سلامٍ، صعدت روحها إلى السماء تشتكي جرمًا لم يمر على تاريخ البشرية ولن يمر مثله، فلم تستطع تحقيق أمنية واحدة باحتضان نجلها، وهي أسهل شيء يمكن أن تفعله أي أم في العالم تعيش حياة طبيعية، لكن في فلسطين هذا حال أمهات الأسرى الفلسطينيين، هذه المرة لم تستطع مقارعة الموت.

رفض عميد الأسرى تقديم طلب للاحتلال بأن يسمحوا له بمواراة والدته الثرى، والمشاركة في مراسم تشييعه أمه، كانت "مخاطبة الجانب الإنساني للاحتلال خطيئة وجريمة"، فكيف يخاط من جعل أمه تموت في قهرها حتى لو كان بحاجة لنظرة الوداع ؟، هكذا كان يحدث شقيقه نديم، ليرى العالم جرم الاحتلال في حرمان أم من ابنها.

دارت حياتها حول ابنها، عاشتها على أمل اللقاء وهي تقف على الضفة الأخرى من جسر الحرية في كل صفقات التبادل كان الاحتلال يشطب اسمه منها، كانت سعيدة في آخر فترة أنها لن تسأل المحامي شيئًا عن كريم، لن ترسل الصور، لن تقاتل من أجل التقاط صورة يوافق عليها السجان بعد عشرين عامًا من المماطلة "خلص راح يجي يتصور معنا"، في شهر رمضان كانت تضع صورته على مقعدٍ يؤنس وحدتها وشوقها، لكن الموت كان أسرع من كريم في الوصول إلى قلبها، لترحل دون تحقيق حلمها بعناق ابنها الأسير الذي انتظرته مدة أربعين عامًا، فماتت الحاجة صبحية.

سيتحرر كريم يونس عميدًا للأسرى بعدما أمضى أربعين عامًا في سجون الاحتلال سيجد الآلاف بانتظاره إلا تلك السيدة التي عدت الأربعين عاما بسنواتها وشهورها وأيامها ودقائقها وثوانيها، سينظر إلى وجوه الجميع ولن يرى صورة أمه التي غيبها الموت في الخامس من مايو/ أيار 2022.

حينها ستختلف المراسم وستتبدل فبدلا من استقبال المهنئين بحريته سيذهب إلى قبر أمه، سيقف على أطلال الحزن ليستقبل المعزين بعد تسعة أشهر، سيواريها الثرى بدموعه التي ستتساقط على قبرها.

 من ستكون ملجأ دموع فرحه بعدك؟ من سينسيه بدفء معانقته عذابات القضبان!؟ من سيرى فرحته بها.

سلامٌ على ضحكتك وأنت تقرعين أجراس الوداع وأنت تتركين لابنك ما قاله الشاعر (مظفر النواب): "وماذا بعد؟ سِرت في اتجاهك العمر كله، وحين وصلتك انتهى العمر"، والآن، يغسل كريم روحك بالدموع هناك في عالم المنسيين!.