تُجرى مخططات أمنية واسعة بعيدة عن كاميرات التصوير ولاقط الصوت، يفوح بعض من رائحتها ويطفو آخر على وجه الجريمة المجملة بغطاء "السلام" أو عبارة التلطيف "التنسيق".
تصر وسائل الإعلام العبرية منذ أيام على أن اقتحامات الضفة الغربية تقوض السلطة الفلسطينية وتضعها في موقف ضعيف يجبر الاحتلال على إعادة التفكير في العلاقة وأصل وجود السلطة، وبالتزامن مع ذلك تلوح هنا وتضرب هناك تصريحات يقال إنها رسمية فلسطينية -ولا نعرف من يعرف نفسه أنه رسمي- تقول إن الاحتلال يحاول إضعاف السلطة بعمليات الاقتحام هذه.
مضحك مبكٍ مشهد الاقتحامات والتصريحات التي لم تنتهِ ولن تنتهي، وكذلك لم تكن جديدة، فإذا ما عدنا في الإعلام ويوميا على مدار ٢٩ عاما تقريبا من اتفاقية أوسلو سيئة الذكر سنقرأ ونرى تصريحات واقتحامات، غير أن الجديد في متحور فيروس أوسلو أنه يبدع أفكار الانبطاح من ذاته، بل ويتحور ليتماشى مع حاجة الاحتلال "مغذيه" للاقتصاد والأمن والأرض ويتلاشى ذلك المتحور فورا في الحديث عن حقوق وشعب ودولة، هذا التطور في أوسلو جاء بعد عام ٢٠٠٥ تقريبا، حيث تلاشت حتى مناطق السيادة الفلسطينية "أ" وباتت جيبات الاحتلال تجوب كل شبر من أرض الضفة الغربية.
هذا التطور تزامن مع إنهاك واضح للمقاومة وتسليط أدوات التنسيق الأمني والتقنيات العسكرية على الأرض ضد المقاومة، وتمت تغطية المشهد بمؤتمر "أنابوليس" وشروط الرباعية وتفاهمات "جورج تنت" سبقتها، وتلت ذلك خطط الهجوم على غزة والكيان المعادي والسلام الاقتصادي والبرمجة النفسية، كل هذه الأمور صاحبت هذا المتحور الجديد من فيروس أوسلو الذي لم يعد فيه الحديث حتى عن مفاوضات رغم هزليتها ولا عن سيادة رغم وهميتها ولا عن أفق رغم وضوحه.
تطورت الأمور وبات ما هو تحت الهواء كبيرا وكثيرا ومزعجا لكل طرف، فالمقاومة في غزة تعيد ترتيب أوراقها وتضبط توقيت إعدادها وعملها وتوسع رقعة تحالفاتها وتعزز إسنادها وتعمق خططها وسيناريوهاتها وتتمدد لتجدد قواعدها في الضفة الغربية وتبني حاضنتها، في حين أن الاحتلال وأدواته يواجهون مأزقا كبيرا في فكرة الاحتواء أو الإهمال أو حتى التركيز الذي سيضرب كل ما بنته أوسلو ومتحورها الجديد.
وهنا نجد أن بعض الخطط يعاد ترتيبها لتشمل الضفة الغربية بخطط استخباراتية دقيقة وعميقة وفيها بصمات خطيرة في محاولة واضحة لعزل المقاومة المتجددة فيها عن الحاضنة التي أسستها سيف القدس، وهذه الخطط بات الاحتلال رويدا رويدا يلمح لها، وبعض الأطراف الفلسطينية تحاول تجميلها على أنها سيادة فلسطينية لا يمكن أن تستمر الاقتحامات معها، فكان بعض ملامحها:
* مبادرات أمنية لتحديد البؤر المقاومة وعزلها من كل الأطراف والتشويه الممنهج للأفراد فيها وخلق قضايا لا تتعلق بالمقاومة بحق بعضهم.
* تعزيز الاحتلال للحواجز العسكرية واستخدام مركز وعميق لقوات خاصة خاطفة حتى لا تبقى مشاهد الاقتحامات وتقوض فكرة المتحور الجديد في أوسلو.
* بدء تلميح باستخدام الطائرات بدون طيار في اغتيال محدود دون وجود ميدان مواجهة.
* حملات أمنية واسعة تقوم بها السلطة وقوات الاحتلال بالتزامن؛ لمصادرة الأسلحة والسيارات غير القانونية وهذه حملات واسعة جدا منها ما هو معلن عنها ومنها غير معلن عنه.
وكثير من الخطوات التي تعد تحت الهواء ولا نعرف عنها شيئا ولكنها في المحصلة محاولة جادة وواضحة لتطبيق نظريات زمام المبادرة وقص العشب وإعادة الضفة الغربية للمربع الهادئ وغزة لمربع المحاصر الجائع.
مشهد خطير تتساوق فيه أطراف كثيرة تذكرنا بما كان في تسعينيات القرن الماضي من مؤامرات مكافحة "الإرهاب"، ولكن ورغم كل هذا المكر فإن المقاومة لديها مضاد حيوي كبير وقوي وعميق، متمثلا بجغرافيا وحاضنة وأدوات ذكرناها سابقا، بات من الصعب أن تنهي خيار شعبها تلك الفيروسات الأمنية ولا المتحورة منها.