شعبنا الفلسطيني المنافح لمياه الخضوع والتدجين أن تُسكب على رأسه، والمنافح لفكرة أن يصيبَ بللُها جسدَه، هذا الشعب يُقصف منذ قرنٍ ونيف بشتى صنوف المآسي والعذابات بغية انتزاعه من حالة استعصائه على الانقياد إلى حيث يريد المشروع الصهيوني، لكننا نراه يتحرك في الاتجاه المعاكس لإرادتهم، هذا الشعب قد بلغ اليوم بحسب آخر الأرقام الصادرة عن المركز الفلسطيني للإحصاء خلال عام 2022 نحو 14 مليون نسمة، نصفهم تقريبًا موجودون حيث ولَّيت وجهك في أصقاع الأرض، وهم جزء أصيل من شعبنا الفلسطيني، لم يتخلفوا في كل محطات نضالنا عن إظهار تمسكهم بفلسطينيتهم وإصرارهم على العودة، فنحو 7 مليون فلسطيني تستضيفهم عشرات الدول في مختلف القارات، وهم ذو ثروات غنية بطاقات هائلة وامكانيات مدرارة لرفعة ونهضة المجتمعات المستضيفة لهم، باختصار فنحن أمام تجمع بشري يستقرُ في أحشائه روافد ثمينة باستطاعتها توظيف مجال عملها في خدمة القضية الفلسطينية، لكننا لم نرى منه كل ما يقوى على فعله، كونه لم يجد مَن يستثمره بشكل حقيقي يتناسب مع قدرته على صناعة ما يلزم من دعم وإسناد لقضيتنا العادلة، رغم كل ما يُبذل من جهود في هذا الاتجاه.
ليس هناك معلومات رسمية تُبدد جهلنا بطبيعة عمل كل أو جل أبناء شعبنا الفلسطيني في الخارج ونوعية تخصصاتهم العلمية والمهنية، لكن بعيدًا عن الخوض في تفاصيل ذلك، فشحيح المعلومات الماثلة تُخبرنا أن أبناء شعبنا الفلسطيني موجودون في كبريات جامعات ومستشفيات وبنوك وشركات العالم، كما أنهم موجودون كنواب في برلمانات دول، وفي برلمانات ولايات، ونراهم في دول أخرى رؤساء وأعضاء مجالس بلديات.
لا شك أن الفلسطيني في ديناميكية دائمة، وهو لم يكن يومًا ليقبل أن يُحاط طموحه بجُدر، ولا أن يرتطم بسُقف، فدائمًا هو في حالة انطلاق عمودي وأفقي، وكون أن طموحه لا يعترف بصعب، ولا يقف عند مستحيل، فقد بلغ به رئاسة جمهوريات، كما هو الحال بالنسبة لجمهورية السلفادور، ومن المعلوم بالضرورة أن حيوية الفلسطيني متزايدة في نشاطها ولا تعرف الخمول، وهذا جعل الفلسطيني حاضرًا في المحافل العلمية، والأكاديمية، والحقوقية، والفكرية، والفنية، والصحية، والاجتماعية، والثقافية، كما أن احتفاظ الفلسطيني بمخزون لا ينفد من الإرادة والإصرار على فتح الأبواب المؤصدة أوجد له مكانًا في شركات الفضاء، وفي مجال الإعلام، سواء بالعمل أو بالامتلاك، فبعض الفلسطينيين في الخارج يمتلكون قنوات تليفزيونية وإذاعية تخاطب الرأي العام الفلسطيني في الخارج، وتخاطب رأي عامل الدولة المضيفة.
كل الشواهد تعزز فكرة أن الفلسطيني في الخارج مؤثر، منتج، مفيد للدول القاطن فيها، وهذا في حد ذاته أمر إيجابي يساهم في استنساخ وترسيخ صورة إيجابية عن فلسطين وشعبها في ذهنية ووجدان مجتمعات تلك الدول، بما يتيح لنا شق طريقنا نحو حشد التعاطف والتأييد والدعم لحقنا في نيل الحرية، وحقنا في مقاومة الاحتلال من أجل الظفر بهذه الحرية، لكن كيف لنا إحداث حالة استثمار حقيقي لهذا الحضور والتأثير.
يجب أولًا أن تقوم المرجعيات الفلسطينية في كل دولة بإعداد قاعدة بيانات حول أعداد الفلسطينيين في الدولة، تخصصاتهم، الوظائف التي يعملون فيها، مناصبهم، ونقصد هنا بالمرجعيات الفلسطينية سفارات السلطة، إدارة الجاليات، المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، المؤسسات الفلسطينية الأخرى ذات البعد الوطني والمهني
ثانيًا: تثقيف أبناء الجالية ورفع مستوى وعيهم بأهمية دورهم الوطني الذي يقومون به عبر رسم صورة حسنة لفلسطين، وهذا نحصده باستثمار تخصصاتهم ووظائفهم في خدمة المجتمعات المحلية، وبتوجيهها إلى حيث المساحات الخادمة لقضيتنا الفلسطينية.
ثالثًا: توعية الجالية الفلسطينية بأهمية تنفيذهم مبادرات فردية أو جماعية لدعم وإسناد المجتمع المحلي المضيف وقت الكوارث والأزمات، وفي المناسبات الوطنية، إلى جانب إطلاق مبادرات إنسانية دورية تستفيد من تخصصات أبناء الجالية، في سد إحدى حاجات المجتمع المحلي المضيف، مع تضمين اسم فلسطين كل مبادرة تطلقها الجالية، وعطفها بحملة تسويق إعلامي تفتح الباب أمام بلوغ خبرها قطاعات محلية واسعة.
رابعًا: توجيه جالياتنا الفلسطينية نحو امتلاك قنوات تلفزيونية وإذاعية ونوافذ إعلامية أخرى تهتم بعرض قضايانا الوطنية ومعالجتها إعلاميًا بطريقة متناسبة مع مزاج المجتمع المحلي المضيف، مع ضرورة مراعاة تقديم وجبات إعلامية وفنية متنوعة تنسجم مع تراث هذا المجتمع وأصالته.
خامسًا: صناعة نشطاء فلسطينيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي من ذوي الوعي الوطني وتعزيز حضورهم في المجتمعات المحلية المضيفة، وتعبيد طريق انتشارهم لدى تلك المجتمعات تمهيدًا لاستخدامهم كوسيلة نشر وتسويق تضحياتنا ولعدالة قضيتنا.
سادسًا: إكساب النشطاء مهارات مخاطبة رأي عام الدولة بالطريقة التي تنسجم مع ميوله وذوقه، بمعنى هندسة وتصميم معالجة كل حدث يخص قضيتنا بطريقة قادرة على التأثير.
سابعًا: وضع خطة عمل تستهدف التأثير في مشاهير ونجوم البلد المضيف واستقطابهم لصالح قضيتنا بحيث نصنع منهم عقول تؤمن بعدالة قضيتنا، وألسن ناطقة باسم حقنا.
ثامنًا: فتح قنوات التواصل والحوار مع القطاعات الواقعة تحت تأثير التعاطف مع الاحتلال باعتباره ضحية، ومالك حق، وذلك بتكثيف خصهم بوجبات المعلومات المتضمنة لجرائم الاحتلال بحقنا، وللحقائق التاريخية المؤكدة على حقنا في فلسطين، وتضمين الوجبات نصوص القوانين الدولية التي تعطينا صفة شعب محتل، وتمنحنا حق مقاومة الاحتلال بمختلف أشكال المقاومة.
أعتقد أننا بكل ما سبق سننجح في إيجاد مساحات واسعة للتقارب مع المجتمعات المحلية المضيفة، وسننجح في إحداث اختراق في وجدانهم وذهنيتهم، بعد تمكننا من تعزيز علاقاتنا بهم، وبالتالي التأثير فيهم بمستويات تخدم قضيتنا.