عند الحركة الصهيونية؛ قداسة الهولوكوست مقدمة على الإيمان بالله.
على مدار سنوات الصراع الطاحنة على الأرض المقدسة، تشكلت في جغرافيا البلاد جماعتان مترابطتان ومتصارعتان، أما الترابط فهو حول الحق التاريخي والديني لكل منهما على هذه الأرض ولنفس السبب هما متصارعتان، ليتشكل بهذا الخلط بين الترابط والتصارع شكل هوياتي جديد مختلف وأكثر تعقيدًا عن المعروف حول الهويات وأسباب تشكيلها، لتكون الهوية الفلسطينية هوية جماعية إثنية دينية شملت كل ساكنيها عبر التاريخ حتى الكنعانيين وقبائل البلست، واستوعبت عدة قوميات كالآرامية الأنباط، الفينيقيين، الشوريين، حسيين مصريين قدماء، وغزاة أوروبيين، لتعطي بذلك هويتها لمن سكنها وتدور مع ساكنيها ثقافات عريقة ولغات عدة كالآرامية، والسريانية، الرومانية، العبرية، والعربية، ومع كل جماعة ديانتها وثنية كانت أو مصرية، يهودية، مسيحية، وإسلامية، لتكون فلسطين الهوية التاريخية الجامعة أمام من مروا عليها مكثوا أو عبروا لتبقى فلسطين كما هي.
لاحقًا أمام سطوة الاستعمار وإحلاله مركبًا جديدًا على الأرض المقدسة بدلاً أو إطفاءً للسكان الفلسطينيين الأصليين بدأت تظهر هوية قومية قُطرية أمام الخطر الصهيوني الجديد بشكله المركب الكولونيالي الإحلالي العنصري المشكل من مستجمع بشري شاذ وغير منسجم مع السياق الإنساني والروح البشرية الحرة، لتنشأ الهوية الفلسطينية المقاومة للاستعمار أمام الهوية الأكثر عنفًا في التاريخ المعاصر الهوية الصهيونية المركبة من جدار حديدي قائم على صناعة وعي زائف في العقل العربي بأن القوة الغاشمة التي يملكها اليهود الصهاينة لا يمكن كسرها، وجدار نووي قائم على فكرة الإبادة للبشرية دون اعتبار للأرواح البريئة، وجدار ثالث مبني على الكراهية العمياء للكل الآخر غير اليهودي، أحجاره شُيدت في معتقلات الإبادة النازية ومحرقة جذورها وفعلها أوروبي ضحاياها حتى اليوم هو الشعب الفلسطيني المعذب بسياط الظلم والقهر اليهودي لتكون الهولوكوست المحرقة والقربان اليهودي لأوروبا الأداء الأكثر قمعًا وعنفًا حتى اليوم بحق الضحية المسفوح دمها الشعب الفلسطيني لتصبح أوروبا العالم الحديث الإمبريالي، وصنيعتها الحركة الصهيونية المشروع القائم على إبادة الآخر بحسب الرؤية الداروينية.
مؤخرًا أُثيرت مسألة الهولوكوست بعد خطاب علني قدمه محمود عباس، رئيس سلطة رام الله في ألمانيا خلال مؤتمر صحفي مع المستشار الألماني، حيث قدم أحد الصحفيين سؤال لا يخلو من المكر والخديعة، وقد يكون من جهة ذات علاقة مع الصهاينة أو مع الصهيونية العالمية، ليسأل عباس إن كان يقدم اعتذاره عما قامت به جماعة أيلول الأسود الفتحاوية من استهداف للاعبين يهود في الألعاب الأولمبية قبل خمسين عاما في ألمانيا.
سيكون الجواب مقارنة صحيحة حول المجازر والمحرقة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني على يد اليهود منذ نكبة ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين حتى اليوم التي تجاوزت الخمسين هولوكوست بما حصل مع اليهود أنفسهم، حينها انقلب أركان الكون وتداعى على ذاته من هذه المقارنة، هو المصطلح الهولوكوست تم إدراجه ضمن القاموس الصهيوني فقط باعتباره الكنز الأكثر قيمة للحركة الصهيونية وكيانها القائم على جماجم الشعب الفلسطيني، هذه العاصفة التي قد تغير بعض المسلّمات في المنطقة كانت ذات منطلقات واعتبارات عدة في قناعة أصحابها، يجب عدم تجاوزها منها:
-
أن الصهاينة يعتبرون الهولوكوست حصريا لليهود، وما حصل معهم في ألمانيا النازية، وأنه ليس حديثًا عن نكبة أو اختلال بل هو مسألة هوية ووعي صهيوني.
-
أن معاناة اليهود لا يمكن مقارنتها بمعاناة باقي الشعوب، لكون اليهود الشعب المختار من الرب إيل، في حين تصبح باقي البشرية في مرحلة دونية من هذا الاختيار، لكونهم أغيارا، وعليه فإن معاناة اليهود العرق الأسمى من الجميع لا تشابهها معاناة من هم دونيون كالأغيار.
-
الحق بتقمص دور الضحية الأبدي محصور باليهود فقط، ولا يمكن لأحد آخر أن يتقمص هذا الدور لكون دور الضحية اليهودي يبرر استخدام القوة ضد الكل.
-
بفضل الهولوكوست تم تقديم تعويضات مقدمة لليهود الإشكناز تحديدًا وصلت إلى مئة وخمسين مليار دولار على مدى السنوات اللاحقة لإقامة الكيان الصهيوني، مما مكن الكيان الصهيوني ماليًا ومنه اقتصاديًا وتقنيًا حتى يومنا هذا على حساب الحق الفلسطيني الأصيل في التحرر.
-
الهولوكوست أعطى الحق لليهود أصحاب المظلومية التاريخية أن يبنوا ترسانة نووية توفر الأمن للكيان من أي إبادة جديدة بحقهم، بل وتصبح قادرة على إبادة الآخرين الذين قد يشكلون خطرًا وجوديًا على الكيان، هذا وقد تشكلت في وعي اليهود تاريخيًا فكرة الإبادة الجماعية حيث أصبحت خاصية أصلية فيه ليست ظاهرة عابرة أو مؤقتة وتمارسها بحق الآخرين كلما تمكن اليهود من السيطرة والقوة، لكن الملفت خلال الأيام التي تبعت خطاب عباس الأخير في ألمانيا أن النقاش في الإعلام الصهيوني تصارع أمام فكرتين أساسيتين.
الأولى: حصرية الهولوكوست كمصطلح يجب أن يعبر فقط عن المحرقة بحق اليهود التي قامت بها النازية الألمانية وحلفاؤها، وأن أي خلط بين الهولوكوست بتعريفه السابق مع أي ممارسة أخرى هو محاولة لإرباك الذاكرة البشرية وتغيير وعيها في نوعٍ من الإنكار للهولوكوست وحصريته لليهود وما جرى معهم.
الثانية: هو فضل محمود عباس ورجاله في سلطة رام الله على الكيان الصهيوني ومواطنيه، فمع كل ما سبق من انتقاد شديد بمقارنة عباس المذكورة فإنه ولولا هذا الشخص تحديدًا لكانت انتفاضة الأقصى مستمرة وقائمة والتي بالحتم ستكون الضفة الغربية بشكل آخر مختلف لا يصب في مصلحة الكيان الصهيوني، وأن علاقة الكيان الصهيوني مع عباس وجماعته يمكن توضيحها في مسارين أساسيين: الحاضر والمستقبل، فالحاضر هو التنسيق الأمني وضرورة بقائه من أجل الهدوء في المنطقة مما يؤثر الأمن على مواطني الكيان وجنودهم منتشرين في المناطق وما يقابله من أرباحٍ للفلسطينيين وتسهيلات في المعابر وتصاريح عمل وأفق اقتصادي لا بأس به، والمستقبل الذي يتم إدارته بشكل أساس عن طريق المصادر والشخصيات الأمنية، فهم يعرفون متى يجب الضغط على عباس وجماعته ومتى يجب عدم الضغط، وكيف يمكن إدارة ملف المساعدة الأمنية لبقاء السلطة وتمكينها في مواجهة المقاومة الفلسطينية (العنف والإرهاب)، وكل ما يتصل بمستقبل الخيارات السياسية من حل الدولتين إلى ضم المستوطنات والأغوار للكيان الصهيوني.
وعليه السؤال كيف يمكن تقديم مقاربة حول قدسية الهولوكوست عند الصهاينة أمام المنفعة العظيمة التي يقدمها عباس وفريقه من خلال التنسيق الأمني الذي يحمي ويعزز كل مكونات الكيان الصهيوني إلى حد كبير.
هذا ويستمر اليهود في ممارسة دور الضحية في حين يبقى الضحية الحقيقي يعيش تحت سطوة الجلاد وقهر التاريخ له، عند الشعب الفلسطيني ما هو مقدس لليهود الصهاينة هو مدنس عندهم، وإن كان هناك ضحية للهولوكوست فهو الشعب الفلسطيني الذي يمثل الشاهد الحي لظلم التاريخ له والمتضرر الأساس من هجرة اليهود إلى الأرض المقدسة وإقامة كيانه الغاصب على أرض فلسطين ولجميع القيم البشرية وحتى التخلص من هذا الاستعمار الغاصب يبقى الهولوكوست قائمًا بحق الفلسطينيين.
(1) الكراماتوريا: كلمة لاتينية تعني المحرقة.
(2) الهلوكوست: كلمة يونانية تعني حرق القربان بالكامل، واستخدمت في التشريع الديني اليهودي وصفًا للقرابين التي يتم تقديمها في طقوس تعبدية في زمن الهيكل.