لأن النظم العربية الرسمية لم تعد تستخدم مصطلح دولة العدو الإسرائيلي، ولا تعتبرها دولةً معادية، ولا شعب تلك الدولة، والذي هو في الأصل نتاج سلسلة من الهجرات اليهودية من مختلف أنحاء العالم، تمت على مراحل زمنية متعدّدة، ونجحت، في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين، في تكوين مجتمع يهودي على أرض فلسطينية عربية، وانتهى بها الأمر إلى إعلان قيام الدولة العبرية. لم تعد النظم العربية تعتبر ذلك الشعب غاصبًا حق الشعب الفلسطيني العربي، ومحتلًا أرضه ومقدساته الإسلامية والمسيحية، المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في القدس الشريف، فدولة العدو الإسرائيلي أصبحت دولة (إسرائيل) الجارة، وشعبها طيب وجار للشعب الفلسطيني الذى عليه أن يتعايش معه بسلام، على الرغم من كل ظروف القهر، والحصار، ونزع ملكية الأرض، وبناء المستوطنات، فكلها إجراءات بهدف تحقيق سلامة ذلك الشعب الطيب القادم من الشتات وأمنه، وغير ذلك من أوجه الاعتراض، فهو، من دون تردّد، إرهاب.. إرهاب.
هذا ما آل إليه حال الأمة، بعد صراع ممتد عبر ما يقرب من مئة عام، عندما أعلنت بريطانيا العظمى، على لسان وزير خارجيتها بلفور، وعدها الشهير بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وخاضت الأمة سلسلة من الانتفاضات والثورات الفلسطينية الداخلية ضد عمليات الهجرة والتهويد، وسلسلة من جولات الحروب العسكرية، والتي انتهت، في جلها، بهزيمة الجيوش العربية النظامية التي خاضت تلك الحروب، اللهم إلا نصرًا عسكريًا مصريًا، على جبهة قناة السويس في آخر الحروب العربية - الإسرائيلية في أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وهو الأمر الذي أدى إلى ما تعرف بعملية السلام، والتي انتهت بمعاهدة سلام مصرية – إسرائيلية، أعقبتها اتفاقيات أوسلو الفلسطينية بين منظمة التحرير و(إسرائيل)، ثم معاهدة سلام أردنية - إسرائيلية.. ورفعت النظم شعار لا صوت يعلو فوق صوت السلام، ولا حديث سوى حديث المبادرات والمفاوضات.
ذلك على الرغم من أن العدو الإسرائيلي الذي لم يعد عدوًا يحتل كل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، ويحاصر قطاع غزة الذي يضم أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني، على مساحة لا تتجاوز 650 كم مربع.
ولم يتبق سوى صوت أبى أن يصمت هو صوت المقاومة الفلسطينية التي بقيت تستنهض الأمة، وتذكّرها بأن هناك أرضًا مسلوبة، وشعبًا مستباحًا، ومقدسات مدنّسة؟ ولكن، للأسف الشديد، تتعرّض تلك المقاومة، التي هي أنبل ما في الأمة، لعملية شيطنة وتضييق، بل واتهامٍ بالإرهاب. نعم إرهاب الشعب الإسرائيلي الطيب الذي استولى على أرضهم، وحاصرهم، واستباح مقدساتهم، مسلمين ومسيحيين.
في ظل الظروف التاريخية الفارقة ما بين السعي إلى تثبيت الحق في الأرض والمقدّرات والمقدّسات وضياع ذلك كله وتصفية القضية الفلسطينية في إطار ما تعرف بصفقة القرن، قام العدو الإسرائيلي، والذي سيبقى عدوًا في وجدان الشعوب، بما يمكن تسميتها "بالونة اختبار"، بإغلاق أبواب المسجد الأقصى في يوم 14 يوليو/ تموز الماضي، ومنع إقامة صلاة الجمعة، في سابقةٍ لم تحدث منذ احتلال القدس في 1967 إلا مرة، وحاصرت قوات العدو محيط المسجد، وذريعتها اشتباك بين شبان فلسطينيين وأفراد أمن إسرائيليين في الباحة الخارجية للمسجد، انتهت باستشهاد الفلسطينيين. ولأن العدو يبحث دائمًا عن ذرائع واهية لينفذ مخططات خبيثة، شرع فورًا في فرض حصار محكم على محيط المسجد الأقصى، ثم لم يلبث أن بدأ في إقامة سياج من بوابات كشف المعادن الإلكترونية أمام أبواب المسجد، تمهيدًا لتفعيلها عند السماح بعودة الفلسطينيين للصلاة في المسجد، ومن ثم فرض إجراءات أمنية مشدّدة، تسمح له بتنفيذ خطته للتقسيم المكاني والزماني للحرم المقدسي، مرحلة أولى تسبق عملية التهويد الكاملة، وتغيير معالم الأقصى.
ولأن كل مرحلةٍ مرهونةٌ بتنفيذ المرحلة السابقة عليها، ولأن أبناء الشعب الفلسطيني من المقدسيين، ومعهم فلسطينيو الأرض المحتلة داخل الخط الأخضر (عرب 48)، هم الأكثر فهمًا لمخططات العدو الإسرائيلي الخبيثة، فلم يدعوا الأمر يمر كما خطط له العدو، لكنهم بادروا على الفور إلى استنفار كل قدراتهم على التحدّي والصمود والمواجهة، رجالًا ونساءً، بل وأطفالًا، وبدؤوا في اعتصام ورباط مفتوح حول حرم المسجد الأقصى، وأمام أبوابه، يقيمون صلواتهم، ويرابطون من دون كلل، وهم عزّل، في مواجهة قوات عدوٍ، لا تعرف سوى لغة الغاز والرصاص المطاطي والرصاص الحي والاعتقال.
سقط شهداء وجرحى، وتم اعتقال المئات. ولكن، كان شعار الفلسطينيين "لا تراجع.. ولا تسليم للأقصى" نحو أسبوعين. حاول العدو أمام ذلك الصمود أن يناور برفع بوابات الكشف المعدنية، وتركيب منظومة كاميرات مراقبة على مجموعة أبراج حديدية تحيط بباحة المسجد الأقصى، لكن اللعبة لم تمر على الفلسطينيين، وأصرّوا على موقفهم بإزالة كل العوائق الأمنية من أمام أبواب المسجد كلها، والسماح بالدخول الحر لحرم المسجد. وفي نهاية الأمر، لم يجد العدو بدًا من الرضوخ، ولو مؤقتًا، لمطالب الفلسطينيين.
تلك كانت بالونة الاختبار الإسرائيلية، ورد الفعل الشعبي الفلسطيني من المقدسيين وفلسطينيي الخط الأخضر يدعمونهم، وسيكون ذلك محل تقييم بلا شك من أجهزة العدو الإسرائيلي، وهو ما يمكن أن ندرجه تحت عنوان الصمود.
وتبقى في المشهد أطراف أخرى ستحظى بقدر أكبر من التقييم والدراسة بالنسبة لإسرائيل، ويجب أن تأخذ القدر نفسه من الاهتمام من كل القوى الفلسطينية الوطنية.
أول تلك الأطراف هي "النظم والقوى العربية"، والمقصود نظم الحكم والسلطة في الدول العربية، والمنظمات العربية الإقليمية، والقوى السياسية المنظمة، وثاني تلك القوى هي المجتمع المدني والجماهير في الفضاء العربي، ناهيك عن القوى الإسلامية ومنظماتها، خصوصًا أن تلك الأطراف بكل قواها كانت تتخذ من القضية الفلسطينية، وخصوصًا قضية القدس والمسجد الأقصى، مدخلًا لمصداقيتها.
لا يحتاج مشهد تلك الأطراف إلى مزيد من الشرح والتوضيح، فإذا كان عنوان المشهد المقدسي الجماهيري هو الصمود، فإن عنوان مشهد قوى المجتمعات المدنية والجماهير العربية هو الصمت. وقد تكون لذلك أسباب عديدة، يطول شرحها، وتحتاج دراسة أكثر شمولًا وعمقًا. وكان مشهد النظم والقوى السياسية ملتبسًا للغاية، بدأ بالصمت، ثم بعد تأكد صمود المقدسيين، بدأت همهمات على استحياء تطالب إسرائيل، وليس العدو الإسرائيلي، بمراعاة شعور المسلمين. ولكن الأخطر ما جاء في بعض الصحف ووسائل إعلام العدو إن صح، وهو يتحدث عن تفهم بعض القادة العرب تركيب إسرائيل البوابات الإلكترونية، ولكنهم يرجونها البحث عن مخرج للأزمة. (هآرتس 23/7، ومقال الكاتب زيفي باريل عن سعي الأردن ومصر إلى مساعدة إسرائيل للخروج من الأزمة)، إن صحت تلك المصادر الإسرائيلية، يكون العنوان الأقرب لهذا المشهد هو الرجاء.
وبين الصمود والصمت والرجاء، يبقى الأقصى من دون بوابات وكاميرات إلكترونية هو أقصى أمانينا. ونبقى في انتظار بالونة الاختبار التالية في الطريق إلى صفقة القرن.