قبل مائة عام، اجتمعت حكومة ملك بريطانيا العظمى، جورج الخامس، برئاسة لويد جورج، ووافقت على الصياغة النهائية لخطابٍ يوقّعه وزير الخارجية، آرثر جيمس بلفور، موجّه إلى واحد من كبار أصحاب بيوت المال في بريطانيا، اليهودي البريطاني ليونيل روتشيلد، ليبلغه إلى مسؤول الوكالة اليهودية، حاييم وايزمان، ولكل المنظمات والمؤسسات الصهيونية في أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، وفي أنحاء العالم. والخطاب هو ما تعارفنا عليه، في عالمنا العربي، بأنه وعد بلفور الذي "أعطى فيه من لا يملك وعدًا لمن لا يستحق"، والأهم أننا ارتحنا إلى ذلك التوصيف الذي تصورنا أنه كان السبب في ضياع فلسطين، وكأن فلسطين لم تكن سوى قطعة أرض في عهدة حكومة ملك بريطانيا العظمى، وبدلا من تسليمها إلى أصحابها الذين هم الشعب الفلسطيني، قامت بتسليمها إلى الوكالة اليهودية، لتقيم عليها دولة (إسرائيل)، لتصبح وطنا قوميا لليهود.
تم تسليم الخطاب في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917، ولم تكن بريطانيا قد احتلت بعد فلسطين، حيث كان الجنرال إدموند اللنبي يتحرك بفيلقه الذي عُرف بالتجريدة المصرية، حيث تم تجميعه من القوات البريطانية التي كانت في مصر، التي كانت تحت الحماية البريطانية، متجها إلى بيت المقدس، والتي دخلها غازيا محتلا يوم 11 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه. وكانت قوات الجيش العربي، بقيادة الأمير عبد الله بن الحسين، قد سبقته إلى شرق الأردن. وهكذا انتهى حكم الدولة العثمانية على فلسطين التي سقطت تحت الاحتلال البريطاني، ثم وضعت فلسطين، والعراق، وشرق الأردن، بقرار من الأمم المتحدة تحت الانتداب البريطاني في عام 1922، وحتى تحافظ بريطانيا على الوعد الذى قطعته على نفسها، قبل أن تحتل فلسطين، بتسهيل إقامة وطن قومي لليهود عليها، فإنها جعلت من العراق مملكة، ووضعت على عرشها الأمير فيصل بن الحسين، وجعلت من شرق الأردن إمارة، ووضعت عليها الأمير عبد الله بن الحسين، لكنها احتفظت بفلسطين تحكمها سلطة الانتداب مباشرة، تهيئة لقيام الدولة العبرية، عندما تكتمل مقوماتها، وفتحت باب الهجرة اليهودية إليها على مصراعيه.
قبل الاسترسال في سرد وقائع التاريخ، وحتى لا نقع أسرى فكرة أن الوزير البريطاني بلفور قد أعطى ما لا تملكه بلاده، أي أرض فلسطين، إلى من لا يستحق تلك الأرض، أي الوكالة اليهودية، والمنظمات الصهيونية، لتكون وطنًا قوميًا لليهود، وليقيموا عليها، طبقًا لذلك، دولة عنصرية تطالب العالم اليوم، ومن دون مواربة، بالاعتراف بيهوديتها، قبل الاسترسال في ذلك التصور، علينا التوقف أمام أسئلة شديدة الأهمية، تتعلق بمواقف الأطراف المختلفة في ذلك الوقت، وهي، تحديدا القوة التي كانت صاحبة السيادة على فلسطين التاريخية، وهي دولة الخلافة العثمانية، وأصحاب الأرض الشرعيون، وهم الفلسطينيون والعرب، والقوة المهيمنة على أرض الواقع، وهي بريطانيا العظمى وحلفاؤها، وفي مقدمتهم فرنسا، والطرف الساعي إلى اغتصاب الأرض واعتبارها وطنيًا قوميًا مزعومًا، وهي الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية العالمية. وأخيرًا، القوى الدولية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت تحكم تلك الأطراف إرادات متباينة، بل هي إرادات متصارعة، لكل منها أهداف محدّدة، تسعى إلى تحقيقها بكل السبل الممكنة، وبكل الطرق المشروعة، وغير المشروعة، وإدراكنا طبيعة صراع الإرادات تلك قد يفسر الحال التي وصلت إليها القضية الفلسطينية الآن، وأيضًا قد يكون السبيل لاستشراف مستقبل تلك القضية، والسعي إلى تصحيح ما يمكن تصحيحه. وبتعبير آخر، قد يجيب ذلك الإدراك على السؤال الأهم: ماذا على الفلسطينيين والعرب أن يفعلوا، بعيدًا عن مجرد طلب اعتذار رئيسة حكومة صاحبة الجلالة ملكة بريطانيا الآن، تيريزا ماي، ونحن في عام 2017، عما قامت به حكومة بريطانيا قبل قرن، وكأن ذلك الاعتذار يمكن أن يُعيد عجلة الزمن إلى الوراء، ويعيد الحق الفلسطيني إلى أصحابه؟
لا يمكن الحديث عن إرادة عثمانية في ذلك الوقت، بينما دولة الخلافة، صاحبة السيادة على فلسطين، حتى وقت إعلان وعد بلفور، كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وانهارت إرادتها تمامًا أمام هزائمها المتتالية. ولا يمكن، بأي حال، الحديث عن إرادة عربية، سواء للفلسطينيين الذين لم يستشعروا الخطر الداهم الذي يتهدّد وجودهم، بالقدر الكافي، حيث لم يكن تعداد اليهود في كل فلسطين، يتجاوز 8% من إجمالي السكان، كما أنهم كانوا يتطلعون إلى الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين من مكة المكرمة، وزحف الجيش العربي، بقيادة ابنيه، عبد الله وفيصل، من الحجاز في اتجاه شرق الأردن والشام، في تعاون مع الجيوش البريطانية، ناهيك عن سوء الأحوال المعيشية، والإدارية، وانعدام القدرات الدفاعية لدى غالبية الفلسطينيين. أما باقي العالم العربي فهو إما يرزح تحت الاحتلال البريطاني أو الفرنسي أو الإيطالي، أو واقع تحت نفوذهم، كما كان قد تخلى تمامًا عن التمسك بدولة الخلافة العثمانية، أو الدفاع عنها، بل تحالف مع بريطانيا لهزيمتها.
ما الذي دفع بريطانيا، وهي الدولة العظمى وصاحبة الانتصارات الكبرى، إلى الإقدام على إصدار ذلك الوعد المشين للحركة الصهيونية؟ كانت تسعى إلى الانفراد بالهيمنة على المنطقة العربية، في اللحظات الحاسمة والأخيرة من الحرب العالمية الأولى، وكانت تدرك مدى نفوذ المنظمات الصهيونية، والوكالة اليهودية، ومؤسساتها المالية في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، وأيضًا تطلع تلك المنظمات إلى تحقيق الهدف القومي الذي تسعى إليه، منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي رأسه تيودور هيرتزل في بازل، وانتهى إلى الاتفاق على إنشاء دولة عبرية، تجمع اليهود على أرض فلسطين. وكانت بريطانيا قد حشدت قواتها، وتأهبت لاحتلال بيت المقدس وفلسطين، وهي آخر ما كان تحت سيطرة الحاميات العثمانية في المنطقة العربية، وهكذا كان قرار الحكومة البريطانية، بإصدار ذلك الوعد المسبق الذي يعنى أن الاحتلال البريطاني لفلسطين سيهيئ الظروف لتحقيق غرض إقامة الدولة العبرية.
هكذا التقت إرادات القوى الدولية الفاعلة، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ورسم المنتصر مستقبل المنطقة العربية، لكن الأمر احتاج إلى أكثر من ثلاثين عامًا، ما بين صدور وعد بلفور مع الاحتلال البريطاني لفلسطين وصدور قرار التقسيم، ثم إنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين، وإعلان قيام الدولة العبرية في منتصف مايو/أيار 1948، فما الذي فعله الفلسطينيون؟ وما الذي فعله العرب، على مدى الثلاثين عامًا تلك؟ وهل كان في وسع الوعد المشؤوم وحده أن يُقيم دولة الكيان الصهيوني؟ أم أن الأمر تجاوز ذلك كثيرا؟ وهل إذا اعتذرت تيريزا ماي عن الوعد، أو حتى أصدرت الحكومة البريطانية قرارا بسحب خطاب بلفور، واعتباره كأنه لم يكن، هل سيعني ذلك إسقاط دولة العدو الإسرائيلي وزوالها؟
الإجابة على تلك الأسئلة هي قطعًا بالنفي، لأن إسقاط دولة الكيان الصهيوني، أو إزالتها، أو حتى تحجيمها في حدود 4 يونيو/حزيران 1967، وإيقاف المد الاستيطاني اليهودي، وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على تلك الحدود. بالقطع، لن يتم عبر ما تعرف بعملية السلام الوهمية، ولا بهرولة نُظم الحكم العربية نحو طلب الوصال مع سدنة الكيان الصهيوني، لكن الأمر يحتاج إلى نضال حقيقي، وعمل حقيقي. والأهم أن كلمة السر لتحقيق ذلك هي المقاومة.