نجح الصحافي اليهودي النمساوي، تيودور هرتزل، في 29 أغسطس/ آب عام 1897، في عقد أول مؤتمر عالمي جمع ممثلين للجاليات اليهودية في العالم، في مدينة بازل السويسرية. استمر المؤتمر ثلاثة أيام، وكان هدفه الرئيسي الاتفاق على "إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، يضمنه القانون العام". وانتهى المؤتمر بإقرار "برنامج بازل" لتحقيق ذلك الهدف، من خلال إقامة "المنظمة الصهيونية العالمية"، واختيار هرتزل أول رئيس لها، وتشكيل جهاز تنفيذي لها هو "الوكالة اليهودية"، وتحدّدت الأهداف: تشجيع يهود العالم على الهجرة إلى فلسطين. تنظيم اليهود في العالم، وجمعهم حول هدف إقامة الوطن القومي في فلسطين. السعي إلى كسب تأييد دول العالم، خصوصا الكبرى، لكسب الشرعية الدولية لفكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين. على أن تجمع الوكالة اليهودية الأموال في صندوق قومي لتمويل عمليات الهجرة، وشراء الأراضي، وإقامة المستوطنات، والكيبوتزات، وما يلزمها في فلسطين.
كتب هرتزل في مذكّراته أن "الدولة اليهودية" ولدت في ذلك اليوم، وقد ترى النور في غضون 50 عاماً. وللمفارقة، صدر قرار الأمم المتحدة رقم 181، في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود لإقامة وطن قومي لهم، وكان ذلك بالضبط بعد 50 عاما. وتلك كانت بداية حلم الدولة اليهودية على أرض فلسطين، أو حلم بازل، أو حلم تيودور هرتزل الذي يعتبره اليهود الأب الروحي لدولة إسرائيل. وكانت فلسطين، في ذلك الوقت، جغرافياً، جزءاً من دولة الخلافة العثمانية، مجموعة من الولايات، أبرزها بيت المقدس وحيفا ويافا، وقائم مقاميات، مثل غزة وبئر السبع. وأهل فلسطين العرب يقيمون في تلك الولايات في كنف دولة الخلافة العثمانية، مع وجود جالية يهودية محدودة للغاية في غرب القدس، وعلى ساحل يافا. ولم تكن هناك قيود على التحرّكات الفردية، أو تحرّكات المجموعات الصغيرة، طالما تمت في إطار سيادة الدولة العثمانية.
لم يُدرك عرب فلسطين، ولا غيرهم من العرب، في ولايات الدولة العثمانية، أبعاد الحلم الصهيوني، في ذلك الوقت، فقد كان الجميع يعيش في عالم "الوهم"، وهم دولة الخلافة الكبرى والتي كان العالم الغربي قد بدأ يتعامل معها باعتبارها "الرجل المريض"، بينما العرب، في فلسطين وغيرها، يعيشون في وهم السلطنة العثمانية.
مضت المنظمة الصهيونية العالمية، وجهازها التنفيذي، الوكالة اليهودية، في تحقيق الأهداف التي حدّدها برنامج بازل لتحقيق الحلم اليهودي. وعلى الجانب الآخر، ظل العرب يعيشون في الوهم. وجاءت الإشارة الأولى لتحقيق ذلك الحلم، بشكل مبكر، في خريطة اتفاق سايكس - بيكو التي قسمت كل العالم العربي، بعد سقوط الدولة العثمانية، إلى دول ودويلات، ذات كيانات حكم هيكلية، ملكيات وإمارات ومشيخات وحكومات، بينما تركت منطقة واحدة خالية من أي كيان إداري وطني وهى فلسطين، ثم جاءت الإشارة الثانية الأكثر وضوحاً، عندما أصدرت الحكومة البريطانية إعلانها وعد بلفور الذى صرّحت فيه بأنها تعترف بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، قبل أسابيع من دخول قوات الجنرال اللنبي القدس واحتلال فلسطين، ثم وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني بتأييد دولي، مع تولى بريطانيا كل شؤون الحكم والإدارة في فلسطين.
يقترب الحلم اليهودي من التحقق، والعالم العربي يعيش في حالة عدم التوازن، والوهم، وعدم اليقين، بعد خروجه من تحت عباءة دولة الخلافة العثمانية المنهارة، وضياعه في دوامة الكيانات الجديدة التي تبحث عن هوية، منها ما ذهب يبحث عن هويةٍ قوميةٍ عربية، ومنها من وجد في الهوية القُطرية الوطنية ملاذاً له، ومنها من تمسّك بالهوية القبلية الأسرية. وكانت الواقعة عندما نفذت بريطانيا قرارها إنهاء انتدابها على فلسطين، في 14 مايو/ أيار 1948. وفي اليوم التالي، أعلن مسؤول الوكالة اليهودية في الداخل الفلسطيني، بن غوريون، قيام دولة إسرائيل. وهكذا أمسكت المنظمة الصهيونية العالمية بأطراف حلم الدولة.
على الجانب الآخر، جاء رد الفعل العربي، من دولتين من دول الطوق مع فلسطين، مصر والأردن، حيث اتفق كل من ملك مصر فاروق وأمير شرق الأردن عبد الله بن الحسين على اجتياح الأراضي الفلسطينية، وتأديب تلك "العصابات الصهيونية" التي تجرأت وأعلنت قيام الدولة اليهودية. وللأسف الشديد، كان ذلك في إطار "الوهم"، وفي تلك المرة كان وهم القوة. وجاءت النتيجة هزيمة مروعة، انتهت بالنكبة، وتكريس وجود دولة إسرائيل التي اعترفت بها الدول العظمى، كما تم الاعتراف العربي الضمني بها، عندما وقعت الدول العربية الأربع المحيطة بإسرائيل، وخصوصا مصر والأردن، اتفاقيات الهدنة معها.
استمر الحلم اليهودي، واستمر الوهم العربي. ودارت جولات عسكرية عربية - إسرائيلية ما بين حربي العدوان الثلاثي 1956 ويونيو/ حزيران 1967، وما تبعها من حرب الاستنزاف الطويلة، وحرب أكتوبر (تشرين) 1973، وحروب إسرائيل ضد لبنان وقطاع غزة، وحدثت أيضاً ما تُعرف بعمليات السلام ما بين الدولة العربية الأكبر، مصر، وإسرائيل، ثم مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع الأردن.
تطور الحلم اليهودي، ولم يعد يقتصر على الدولة العبرية كما قامت في العام 1948، واعتراف العرب بها، ولكن حلم دولة إسرائيل الكبرى أصبح على كل أرض فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر، أو أرض إسرائيل التوراتية وعاصمتها القدس الموحدة، مع تأمين حدود تلك الدولة، بالاستيلاء على هضبة الجولان السورية وفرض السيادة عليها وكذلك ضم الغور الفلسطيني وشمال البحر الميت، ومستوطنات الضفة الغربية من جهة الشمال، مع ضمان تأمين الجبهة الجنوبية مع مصر، عبر اتفاقية السلام والتنسيق الأمني. وفيما يتعلق بالشعب العربي الفلسطيني فليبق محاصراً في قطاع غزة، وكانتونات متفرّقة في الضفة الغربية، سكانا بلا دولة حقيقية ولا سيادة، وهو ما يُعرف بصفقة القرن الأميركية.
أما الوهم العربي فقد تطور هو أيضاً، فبعد أن كان يتعامل مع الكيان الصهيوني باعتباره "إسرائيل المزعومة" والعصابات الصهيونية، ويرفع شعار تحرير فلسطين وحق العودة، تحوّل ذلك الوهم إلى إسرائيل الجارة، والصديقة، بل بلغ الأمر ببعضهم إلى اعتبار إسرائيل الحليفة، وتحول شعار المرحلة من "تحرير فلسطين" إلى "التطبيع مع إسرائيل".
ويبقى الأمل في أجيال فلسطينية تأتي من رحم المقاومة الحقيقية، تحوّل الوهم العربي القديم والجديد إلى حلم حقيقي لاستعادة الوطن، وتحويل الحلم الصهيوني الذي كاد أن يتحقق إلى وهم.