ابتداءً ودون أي شك أن ما حدث في غزة في الأيام الثلاثة الماضية يدمي القلب والعين معًا. وهذه ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة. ولقد كُتب الكثير عن هذه الجريمة والجرائم الكثيرة التي قبلها، وسيكتب الكثير عن التي سترتكب بحق الشعب الفلسطيني في قادم الأيام، وبالأخص تلك التي ترتكب بحق أبناء غزة حتى تحقيق النصر النهائي بإذن الله.
لكن ما جرى يستوجب مناقشة الموضوع من زوايا أخرى غير تلك المتعلقة بالجرائم المحزنة التي ارتكبت بحق أبناء غزة الأبطال والصابرين الذين يثبتون يومًا بعد يوم أنهم نموذج رائع وفريد في المقاومة والصمود والاحتساب.
أولًا: يجب تثبيت حقيقة أن هذا العدوان الكبير والدامي والوحشي الذي تبجحت به إسرائيل، والتي قالت إنه لن يتوقف حتى يحقق كل أهدافه، قد توقف بمجرد أن تدخلت مصر واقترحت وقفًا لإطلاق النار، وكأن هدف الحكومة الإسرائيلية كان فقط استهداف الشهيدين تيسير الجعبري وخالد منصور، وأن غرضها أو هدفها الأساسي يتعلق بأمور انتخابية أو داخلية إسرائيلية بحتة، بدليل أن تل أبيب سارعت إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار، وكأنها كانت متعطشة له وتبحث عنه بفارغ الصبر.
ثانيًا: إذا ما قارنا ما حققته إسرائيل من خلال هذه العملية (استهداف قياديين من حركة الجهاد الإسلامي، مع الرعب الذي حصل داخل إسرائيل نتيجة لصواريخ المقاومة، وما تكبدته من خسائر مادية كبيرة سواء للتصدي لصواريخ المقاومة، أو تكاليف الفزع الأمني وإخلاء المناطق المحيطة بغزة)، يظهر أن تكاليف العدوان كانت على إسرائيل أكبر بكثير مما ادعت أنها حققته في عدوانها على غزة. وفي هذا المجال يجب التذكير أن العقلية العنجهية للقيادات الإسرائيلية المبنية على فكرة اغتيال قيادات معينة، على أساس أن هذه الاغتيالات هي الطريقة الأنجح في كبح المقاومة، قد فشلت وأثبتت غباءها منذ زمن بعيد، لأن المقاومة، أي مقاومة، وبالذات الفلسطينية واللبنانية، أظهرت أنها قادرة على تعويض هذه القيادات بوجوه شابة أقدر وأكفأ. ولو راجعت إسرائيل قوائم شهداء المقاومة الذين اغتالتهم، وقارنتها بالأسماء التي حلت محلها، والسرعة التي تم فيها ذلك، ستدرك جيدًا فشل إستراتيجيتها في هذا المجال، والدليل أن قدرات المقاومة تصاعدت رغم كل عمليات الاغتيال التي طالت بعض قياداتها. والأهم أنها لم تنجح (الاغتيالات) في إنهاء المقاومة.
ثالثًا: أن أغلب مراكز الأبحاث الغربية المحايدة تؤكد أن قدرة المقاومة الفلسطينية على جر إسرائيل إلى مواجهات مسلحة شاملة أو محدودة مقلقة تثبت فشل إسرائيل في التعامل معها بصورة حازمة ونهائية أو إنهائها بادعاء تحقيق نصر كامل فيها، (كما فعلت ونجحت في حروبها السابقة مع الدول العربية)، وبالتالي يمكن اعتبار هذه المواجهة، وسابقاتها، هي جزء من حرب استنزاف تفرضها المقاومة على إسرائيل وجيشها الذي لم يعد يقهر رغم إمكاناته الضخمة، وأن تكلفة هذه الحروب على إسرائيل في تصاعد مستمر، وأن نتيجة كل المواجهات هي فشل دولة الاحتلال في تحقيق أهداف استراتيجية واضحة، ويكفي أن تكون النتيجة الأهم فيما يخص غزة هي العجز عن اجتياحها، والعجز عنن قتل روح المقاومة التي تنتقل من جبل إلى جيل. ويكفي أن تكون النتيجة الأخرى هي تزايد عدد الصواريخ التي تستطيع المقاومة أن تطلقها على العمق الإسرائيلي.
وهذا ما عبرت عنه مجلة الايكونوميست البريطانية واسعة الانتشار في عددها يوم امس، والتي قالت فيه انه (رغم النجاحات الإسرائيلية العسكرية في استهداف قيادات في المقاومة، وان دفاعاتها الجوية استطاعت ان تسقط اغلب الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، إلا أن الحقيقة المهمة تظل تقول إن غزة، هذه المقاطعة الصغيرة المحاطة من كل جانب بأراضٍ فلسطينية محتلة إسرائيليا، استطاعت وتستطيع دائمًا أن تسحب القيادات الإسرائيلية إلى التورط في عمليات تجلب للأراضي المحتلة وللحكومات الإسرائيلية الاضطرابات). بكلمة أخرى إن النجاحات العسكرية الإسرائيلية بالنتيجة تفشل في تحقيق الأمان والاستقرار الذي تصبو له القيادات الإسرائيلية وهو ما بدا بسبب قلقا كبيرا للمستوطنين، وان المقاومة هي التي تنجح في بث الرعب سواء بين الناس أو داخل الحكومة. وإذا كان هذا الرعب محصورا في الحزام المحيط بقطاع غزة في السابق، فانه اصبح يوما بعد يوم يتمدد حتى وصل إلى سكان تل ابيب نفسها.
المحصلة النهائية لهذه المواجهة القصيرة، على الرغم من شدتها، إلا أن نتائجها لم تظهر بعد. إسرائيل تكذب عندما تقول إنها حققت اهدافها .
الرحمة لكل الشهداء الذين سقطوا في هذه المواجهة والدعاء لكل الجرحى بالشفاء. وكل الحب والتبجيل لأبناء غزة الأبطال الصامدين، وإن ينصركم الله فلا غالب لكم.