الظلم، والجور، والتعسّف، والقهر والإكراه صفات يمكن إطلاقها على ما يعيشه الشعب الفلسطيني منذ قرن، تحديدًا منذ فرضت عصبة الأمم المتحدة الانتداب (أو الاستعمار) البريطاني على فلسطين، وكان صكّ الانتداب، الذي أُقر ونفذ في عام 1922، مشروع سلب أرض فلسطين والاستيلاء عليها، لتنفيذ وعد بلفور للحركة الصهيونية بغرض إقامة "وطن قومي لليهود"، إذ نصّت المادة الثانية منه على أن "تكون الدولة المنتدبة (بريطانيا) مسؤولة عن وضع البلاد في حالة سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي لليهود"، ونصّت المادة السابعة في الصكّ نفسه: "على إدارة فلسطين تسهيل هجرة اليهود، وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية، وأن تسهّل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود".
ومنذ ذلك الوقت وقع أبناء الشعب الفلسطيني وبناته ضحية لكل أنواع الجرائم التي تصنّف جرائم حرب، وارتكبتها العصابات الصهيونية، وبعد ذلك الجيش الإسرائيلي، والمستعمرون المستوطنون، من المجازر، مثل مجزرة دير ياسين وكفر قاسم والطنطورة، إلى جريمة التطهير العرقي التي حوّلت 70% من سكان فلسطين إلى لاجئين، يناهز عددهم اليوم سبعة ملايين، إضافة إلى جرائم الاحتلال والتمييز العنصري (الأبارتهايد)، وكل صنوف التعدّي على حقوق الإنسان، وبلغ عدد شهداء الشعب الفلسطيني منذ عام 1948 مائة ألف، وبلغ عدد المعتقلين عند الاحتلال منذ 1967 ما يزيد على المليون.
وحسب وصف المؤرّخ الإسرائيلي المعروف، والمعادي للصهيونية، إيلان بابيه، تمثل فلسطين السجن الأكبر في التاريخ البشري، حيث أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين في قطاع غزة برًّا وبحرًا وجوًّا منذ عام 2006، محرومين الماء، والكهرباء، وكل وسائل العيش الكريم، ويعاني 80% من الشباب الخرّيجين البطالة.
ومع كل يوم ينشر الاحتلال الفقر، والمرض، والاكتئاب، والكوارث بين الفلسطينيين، وهناك 642 حاجزًا عسكريًّا في الضفة الغربية قسمتها مع المستوطنات، وجدار الفصل العنصري، إلى 224 جزيرة، أو بانتوستان، أو بكلمة أدق "جيتوستان"، ويخسر الفلسطينيون بسبب هذه الحواجز سنويًّا ستين مليون ساعة عمل، تقدّر قيمتها 234 مليون دولار يضاف إليها خسارة 135 مليون دولار من مصاريف الوقود الإضافية نتيجة الانتظار على الحواجز.
ملايين الفلسطينيين ممنوعون من التنقل بين غزة والضفة الغربية أو زيارة باقي أراضي فلسطين، ومن ذلك القدس، وملايين ممنوعون من السفر، حتى للعلاج من مرض قاتل، ومئات الآلاف يحرمون كل يوم لقاء أحبتهم وعائلاتهم، وهناك أمهاتٌ لم يلتقين أبناءهن وبناتهن عقودًا، وأزواج محرومون العيش مع زوجاتهم، وأبناء منقطعون عن عائلاتهم، وأطفال لم يلتقوا يومًا أجدادهم وجدّاتهم وأعمامهم وخالاتهم، وأحيانًا إخوتهم وأخواتهم، ويقهر الاحتلال ونظام الأبارتهايد الفلسطيني كل يوم في عمله، وأكله وملبسه وعلاجه، وتنقله، وسجنه حتى موته.
لا يوجد مكان في العالم يتكرّر فيه قتل الفلسطينيين: صحفيين، أو أطباء أو ممرضين أو أطفال من دون أن يحاسب القاتل أو يُلام، ولا يوجد مكان في العالم، كفلسطين، يعد فيه الضحايا مجرمين، ومقاومتهم إرهابًا، وتضحياتهم عنفًا، وهل هناك ظلم أبشع من أن يوصف من يناضل دفاعًا عن أرضه وأبنائه، بالإرهاب، وأن تعاقب عائلته بهدم بيته إن قتل أو اعتقل؟!
نذكر أيامًا كانت قيامة الولايات المتحدة والغرب فيها تقوم ولا تقعد، إن مُنع روسي مثل الصهيوني شيرانسكي من السفر، أما ملايين الفلسطينيين المسجونين في قراهم ومدنهم، والمهدّدين بالطرد منها، فلا يحظون بكلمة احتجاج، وإن احتج إنسان نبيل على اضطهادهم، يتّهم باللا سامية والعداء لليهود، وإذا كان يهوديًّا متمرّدًا على الصهيونية، فإنه يوصف بأنه "كاره للنفس" أو مريض نفسي.
لم يسرق من الفلسطينيين أرضهم والجزء الأكبر من وطنهم فحسب، بل يسرق الإسرائيليون، كل يوم، آثارهم، وتراثهم، وأزياءهم، ومأكولاتهم الشعبية، وأسماء مدنهم وقراهم ... ولا يوجد في أي مكان في العالم إلا فلسطين المحتلة شوارع عنصرية، محتكرة للإسرائيليين، ويعاقب الفلسطيني إن سار عليها، أو ساق مركبته فيها، بالسجن ستة أشهر أو أكثر.
هناك أنواع من الظلم، فرضها الاستعمار والاضطهاد الكولونيالي، والاستغلال الرأسمالي المتوحش، والتعصب القومي، في أماكن كثيرة في عالمنا، ولكن لا يوجد مثيل للظلم الممنهج والمخطط والمنظم، والمتواصل كالذي يمارسه الإسرائيليون على الفلسطينيين، ولست في معرض وصف الصمود غير المسبوق الذي يبديه الفلسطينيون في وجه هذا الظلم، ولكن من المفيد التذكير بما كتبه أشرس مؤسّسي العنصرية الصهيونية، وأكثرهم تطرفًا، جابوتنسكي: "الفلسطينيون شعب عنيد ومتمسّك بوطنه، ولا يمكن كسره وهزيمته إلا بنشر اليأس والإحباط في صفوفه".
واليوم يحاول الإسرائيليون تعزيز نشر اليأس والإحباط بمحاصرة الشعب الفلسطيني بالتطبيع المهين مع حكومات عربية، ويجتهدون في نشر دعايتهم بأن الفلسطينيين معزولون، ومنبوذون، ويذكّرنا ذلك بالمثل المعروف: "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة"، ولكن الفلسطينيين يفاجئون (إسرائيل) والعالم بإصرارهم على الصمود والمقاومة، ويذكّرون حكام الغرب مع مطلع كل شمس بازدواجية معاييرهم، ومنسوب النفاق في حديثهم عن حقوق الإنسان، من دون الاستعداد لممارسة أي ضغط على (إسرائيل) التي تجاوزت كل المعايير في خرق حقوق الإنسان، وهم يذكّرون العالم بما قاله عبد الرحمن الكواكبي: "لو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفًا لما أقدم على الظلم"، وبقول مارتن لوثر كينغ البليغ، وهو في أوج نضاله ضد العنصرية: "المصيبة ليست في ظلم الأشرار، بل في سكوت الأخيار".
وعلى عكس ما ظنه وخطط له قادة الحركة الصهيونية، ليست الأجيال الفلسطينية الشابة محبطة، ولا يائسة، ولكنها أكثر وعيًا وأشد رفضًا للأوهام والخداع الذي قُدّم لتضليل العالم، وتشويش وعي الفلسطينيين بما سميت "اتفاقيات السلام" و"التطبيع" و"السلام الاقتصادي"، وإيمان هذه الأجيال أصبح أكثر عمقًا بما قاله علي بن أبي طالب: "دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة".