بعد أن وصلت الفاشية الصهيونية إلى أقصى درجات التطرّف العنصري، وأعلنت نواياها الصريحة بضم الضفة الغربية وتهويدها، وبعد أن صار واضحاً أن جميع الأحزاب الصهيونية تتفق على منع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وتتراوح سياساتها بين ما تبنّته حكومة لبيد – غانتس من "إدارة الصراع" مع السماح باستمرار عملية التهويد والضم عبر الاستيطان الاستعماري، وبين ما تتبنّاه حكومة نتنياهو الفاشية بما تسميه "حسم الصراع" والضم الكامل، لم تجد دوائر دبلوماسية عديدة أدنى قدر من الشجاعة الأخلاقية لفرض العقوبات على (إسرائيل) التي احتلت مكانة "البلطجي الأكبر في خرق القانون الدولي".
وإذ تتواصل سياسة "الكيل بمكيالين"، فإن بعض الدبلوماسيين الدوليين ومدّعي الانتماء إلى "معسكر السلام" الإسرائيليين، مثل يوسي بيلين، يواصلون التفنّن في ابتكار مخارج لحكام (إسرائيل)، تتأقلم مع وقائع الاستعمار الاستيطاني بحجّة الواقعية، وتساعدهم على كسب الوقت لاستكمال الضم والتهويد، والتغطية على النفاق المرتبط بمواصلة الادّعاء بدعم "حلّ الدولتين"، دون اتخاذ أي إجراء ضد الاستيطان الذي يعترفون أنه يُدمّر "حلّ الدولتين".
من جديد البدع التي تمخض عنها النفاق الدبلوماسي، أخيراً، الحديث عن حلول لإنشاء كيان فلسطيني في مناطق "أ" و "ب" فقط، أي حوالي 35% من الضفة الغربية، ولكن على بقع مقطّعة الأوصال، شرط أن يبقى تحت الهيمنة والسيطرة الأمنية الإسرائيلية المطلقة. أما بدعة يوسي بيلين فهي إنشاء كونفيدرالية بين هذا الكيان الهزيل و(إسرائيل). وما يميّز جميع هذه المقترحات المنافقة: أولاً، الموافقة على استمرار توسيع المستعمرات الاستيطانية في كل الضفة الغربية. ثانياً، منح (إسرائيل) السيطرة الأمنية المطلقة، بما في ذلك السيطرة على الحدود والمصادر الطبيعية. ثالثاً، إبقاء نظام الأبارتهايد العنصري، وإجبار الفلسطينيين على الخضوع له في مجموعة "غيتوستانات".
اقرأ أيضًا: الاحتلال وسُعار الاستيطان
اقرأ أيضًا: لا خطط عملية لمواجهة الاستيطان
وتنسف هذه البدع فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وتحوّلها إلى منظومة بانتوستانات، بحجّة الواقعية السياسية، وذلك كله يمثل خطوة انتقالية جديدة في إطار عملية تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية التي بدأت مع اتفاق أوسلو لإجبار الفلسطينيين على تقليص حقوقهم التاريخية إلى 22% من أرض فلسطين، أو أقلّ من نصف ما أقرّته الأمم المتحدة لدولة فلسطينية عام 1947، مع تصفية حق العودة. والهدف الحقيقي لكل هذه البدع منح غطاءٍ لمزيد من التطبيع العربي مع (إسرائيل) على حساب الحقوق الفلسطينية، والتهرّب من المسؤولية السياسية والدبلوماسية عن وعد المجتمع الدولي للفلسطينيين إقامة دولة مستقلة لهم إن قَبلوا بالتخلي عن شعارهم التاريخي بإنشاء "دولة ديمقراطية" على التراب الفلسطيني كاملاً، وإنْ وافقوا على وقف الانتفاضة الأولى، والتخلي عن الكفاح المسلح.
ومع ذلك كله، يصطدم هذا النفاق بحائط التطرّف العنصري المجنون للحكومة الإسرائيلية، التي صرّح ممثلوها هذا الأسبوع، تعليقاً على ما يُشاع عن جهود أميركية للضغط على السعودية للتطبيع مع (إسرائيل)، بأنهم لن يسمحوا للسعودية بامتلاك طاقة نووية للأغراض السلمية، وأنه ليس لديهم ما يقدمونه للفلسطينيين. وفي المقابل، تمتلئ الصحف الإسرائيلية بمقالات كتّاب يعترفون جهاراً بأنهم حاربوا سنوات وصف (إسرائيل) بالأبارتهايد ليعترفوا اليوم، ومنهم بعض من عايش نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا مثل بنجامين بوغرند، بأن (إسرائيل) هي منظومة أبارتهايد لا تختلف عن نظام الفصل العنصري الذي ساد في فترة ما في جنوب أفريقيا. أما المفكر الإسرائيلي زيف سترنهال، وهو من الناجين من المحرقة النازية، فكتب في صحيفة لوموند الفرنسية مقالاً عنوانه "(إسرائيل) تظهر عنصرية شبيهة بالنازية في بداياتها".
لا يوجد أمام مدعي التمسّك "بحلّ الدولتين" أخلاقياً سوى واحدٍ من حلين، إما فرض العقوبات فوراً على حكومة (إسرائيل) التي تواصل الاستيطان لقتل ذلك الحل، والاعتراف فوراً بالدولة الفلسطينية على جميع الأراضي المحتلة، بما فيها القدس، أو الإقرار بأن ما هو قائم "دولة واحدة بنظام أبارتهايد". ومن واجب المسؤولين الفلسطينيين، رسميين كانوا أو غير رسميين، أن يضعوا هذه الحقيقة في وجه كل الدبلوماسيين، والسياسيين الدوليين، والوسطاء، وأن يمتنعوا عن السماح لهم بمواصلة الدوران في لعبة تقليص "حلّ الدولتين"، لتصبح الدولة الفلسطينية مجرّد غيتوهات ومعازل تحت الاحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري. وذلك يعني تبنّي نهج مواجهة الحكومة الفاشية الإسرائيلية، والدعوة إلى عزلها، وليس مواصلة الحديث عن مفاوضات ولقاءات معها.
بعض ما نسمعه، ونراه، يجعلنا ندرك أنه لا حدود لوقاحة النفاق الدبلوماسي، المرتبط بالسياسات المصلحية لدول تريد أن تدفع الضحية، أي الشعب الفلسطيني، ثمن التقاعس الدولي وسياسة المعايير المزدوجة. وليس أمام الشعب الفلسطيني سوى خيار مقاومة الظلم والاضطهاد العنصري والاحتلال الفاشي وإرهاب المستوطنين. ومن المهم سياسياً أن يتحد الموقف الفلسطيني على ذلك، وعلى تطوير الهدف الوطني المعلن، بما يتجاوز مجرّد المطالبة بإنهاء الاحتلال إلى المطلب الوطني بإنهاء الاحتلال وإسقاط نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري في كل فلسطين التاريخية، وتطبيق حق عودة جميع اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هجّروا منها، ولن يضيع حقٌّ وراءه مُطالب.