فلسطين أون لاين

حدد موعدًا للعودة لأطفاله فرجع شهيدًا

تقرير سلامة عابد.. مقاومٌ طارد الشهادة

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

غلبه الشوق، بعد ثلاثة أيامٍ لم يرَ فيها أطفاله، حن إلى سماع أصواتهم، لصوت أصغرهم "بهاء" الذي لم يتجاوز عامين ونصف عام، تسأله طفلته لانا (ست سنوات) بعدما سحبت الهاتف من شقيقها، وتضع توأمها لارا أذنها أيضًا على سماعة الهاتف: "متى جاي يا بابا؟! اشتقنالك كتير"، بصوتٍ مليء بدفءٍ أبوي، حدد موعد العودة: "المغرب إن شاء الله جاي"، فطارت ضحكات بناته على الطرف الآخر من سماعة الهاتف.

لم يتأخر سلامة عابد عن الموعد الذي حدده لأطفاله، عاد مساءً، ولكن ليلقوا عليه نظرة الوداع الأخيرة، إذ رحل شهيدًا، خلال وجوده بالشقة السكنية نفسها التي اغتال فيها الاحتلال القائد بسرايا القدس تيسير الجعبري.

يضج بيت العزاء بأصوات البكاء، لا تملك نسوة العائلة سوى الحزن ودموع هاربة من عيونٍ تتقد فيها نيران القهر وتشتعل فيها الثورة، ثم يعلو صوت طفل صغير، يجري نحو حضن والدته الغارقة في دموعها لا يفهم ماذا يجري، بعينيها المحمرتين والواسعتين لكره الاحتلال ألف مرةٍ، ترفع زوجته يديها للسماء داعيةً المولى (عز وجل) في مصابها الجلل: "حسبنا لله ونعم الوكيل في اليهود"، معاهدةً زوجها على المضي قدمًا: "سأربي أولادي على طريق الجهاد، الطريق الذي سلكه والدهم".

لا كلام كثير يمكن أن تسمعه من زوجة فقدت زوجها إلا عن آخر لحظاته التي احتلت الذاكرة: "اشتاق لسماع صوت طفله بهاء الذي أسماه تيمنًا بالقائد بهاء أبو العطا، فاتصل قبل ساعة من استشهاده على البيت، وكان الاتصالُ خصيصى لسماع صوته، لأنه متعلق به بشدة (..) زوجي إنسان طيب حنون على أهله، طلبها كثيرًا ونالها".

الموت يهدده

منذ نعومة أظفاره تهدده الموت وكان دائمًا قريبًا منه، شيَّعَ كثيرين من أصدقائه ورفاقه عندما أصبح مقاومًا، في عامه السادس ركله حصانٌ ركلة مميتة ومكثَ في إثرها ستة أشهر في المشفى، ثم أجريت له عملية جراحية خطرة بعدها بعدة سنوات، مطلع انتفاضة الأقصى عام 2000 أصابته رصاصة إسرائيلية معدنية مغلفة بالمطاط برقبته فلم يستشهد، وأصيب عام 2004 في أثناء تصديه لاجتياح إسرائيلي لحي الشجاعية ومكث بالعناية ثمانية أشهر.

خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2014 استهدف الاحتلال شقة سكنية كان فيها عابد برفقة الشهيد بهاء أبو العطا (أحد قادة سرايا القدس)، لكنه نجا، كما في كل مرةٍ.

عصر الجمعة، 5 آب (أغسطس)، عجت وسائل الإعلام بخبر استهداف شقة سكنية بمدينة غزة، وأعلن جيش الاحتلال بدء عملية عسكرية في القطاع، أمسك شقيقه طارق هاتفه، وانتابه شعور غريب بأن يكون شقيقه سلامة من المستهدفين، اتصل على هاتفه، لكنه لم يرد، فاتصل على أحد أشقائه ولم يرد كذلك، حتى اتضحت صورة الخبر وأعلن استشهاد شقيقه.

تداهم الدموع صوت شقيقه طارق وتعيق مسير نبراته التي تحشرج بها: "أخي صاحب حس فكاهي، على صلابته وقوته وبسالته، قبل أيام أصابه فيروس "كورونا" وأصيب القائد الجعبري كذلك، فُعزلا معًا، والآن يرحلان شهيدين، بعد مسيرة حافلة في مقارعة الاحتلال، وتحديه، كان هدفه الشهادة، ومنذ اغتيال بهاء أبو العطا حزن لأنه لم يستشهد بتلك الجولة".

توأم الابتسامة

لم تصدق منار أن شقيقها توأم روحها رحل شهيدًا، ولم تنتظر حضور جنازته، والمثول أمام هذه اللحظة القاسية على القلب، حملت نفسها وذهبت إلى مستشفى الشفاء، دخلت إلى ثلاجات الموتى، لحظاتٌ تصلبت فيها نظراتها، ذرفت دموعًا صامتة، لم تشعر بجريانها.

"لطالما اعتدتُ سماع أخبار الموت في الآونةِ الأخيرة، لكنّ مرارة الألم التي كنت أتلقّاها في كلّ مرةٍ عند سماع موتِ أحدهم لم أعتدها بعد، لطالما دخل الموتُ بيتنا ولم يعد ضيفًا، إلا أننا لم نعتد ولن نعتاد عليه يا إلهي، حبيب القلب والروح، توأم الابتسامة، أخي وكل حياتي يرحل شهيدًا، رحل وترك فينا من الفقد ما لا يُنسى، رحل وتركنا هائمين أجسادًا بلا روح، رحل لنصبح بعدها أمواتًا، لكن على قيد الحياة" تتبعثر حروف شقيقته "منار" بين أنات وجع وفقد يطرق قلبها أول مرة ويستوطن فيه.

حجم الألم أفقدها ترتيب مشاهد الحياة مع شقيقها، تبخرت كلها الآن، إلا تاريخ 24 شباط (فبراير)، وكانت تحفظ كل تفاصيله، وهو ذكرى إصابة أليمة له، يتكئ صوتها على عكاز الصبر، يخرج مبحوحًا خافتًا من شدة الحزن: "كنت أكتبُ له رسالة طويلة في تلك المناسبة أحمد الله فيها أنه نجا، وأداعبه ممازحة: (مش كنت مستشهد زي هدا اليوم)".

"اشتكيت آخر مرة له أني أخاف صوت الصواريخ، فما زالت كلماته ترن في أذني: "عندما يهبط الصاروخ لن تشعري بالصوت، إن كان متجهًا نحوك"، قالها بلسان كوميدي كعادته في تحويل الحزن إلى فرح، وليتني تعلمت منه هذا الأمر (...) اتصلت به أخيرًا وقلت له: "اشتقنالك تعال، زمان عنك"، لم يحدد موعدًا للعودة، فرجع شهيدًا" تضع بدموعها النقطة الأخيرة وهي تفتح صفحة واحدة من صفحات شقيقها.