فلسطين أون لاين

أمهله الاحتلال 15 دقيقة فقط

تقرير حاتم أبو ريالة.. مُقعدٌ مقدسيٌّ تجدّدت نكبته 6 مرات

...
المقعد المقدسي حاتم أبو ريالة يوثق بهاتفه هدم الاحتلال لمنزله
القدس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

أوقف كرسيه المتحرك لحظة مرور جرافات وآليات إسرائيلية عند مدخل بلدة "العيسوية" شمال مدينة القدس المحتلة. كانت أصواتها تبعث في قلبه الخوف والقلق، رفع المقدسي حاتم أبو ريالة الذي تلقّى لتوه اتصالًا من المحامي يُخبره: "مفش هدم بالعيسوية، خبّرونا إنه الهدم في سلواد.. اطمئن".

في أثناء سيره، تهادى إلى مسامع أبو ريالة صوت الآليات من بعيد، تسارعت عجلات كرسيه المتحرك نحو الجنود ليجدهم قد تجهّزوا لهدم منزله، طالب من مسؤول الموقع أن يُريَه إذن المحكمة الإسرائيلية العُليا الخاص بالهدم، ليمسك الأخير بكرسيه المتحرك مخبرًا: "ما بهمّني محكمة، ولا محامٍ، معي قرار أهدم البيت".

خمس عشرة دقيقة، مهلة أعطاها الاحتلال لعائلة أبو ريالة لإخلاء ما يمكن إخلاؤه من البيت المُكوّن من طابقين يضمّ كل منهما شقّتين، الإعاقة الحركية منعت حاتم مشاركة أمه وزوجته وبعض أقاربه إنقاذ ما يمكن أن يُخفّف المخاسر، وبالكاد استطاعوا نقل النوافذ والأبواب وبعض الملابس، وتركوا غرف النوم والأثاث تتحطم بين الردم.

ربع ساعة

حينما انتهت المهلة، أبعدت شرطة الاحتلال أفراد العائلة عن المنزل، الذين طالبوا بوقتٍ إضافي لإخراج أغراض أخرى، لتقوم طواقم الاحتلال بضرب زوجته ووالدته وتطردهم، وتبدأ عملية هدم الطابق الثاني للمرة السادسة على مدار عشرين عامًا.

يتأمل ركام منزله، تفيض عيناه دموعًا لم يستطِع حبسها، وبنظرة متحسّرة وصوت مكسور يقول: "أتمنى من الله أن يعطيني قوة لأعيدَ بناءه مرة أخرى، ولن أستسلم، فكما هم يسرقون أرضنا ويبنون فيها في المقابل يمنعوننا من التوسّع ولا يمنحونا حتى فرصة للعيش بكرامة".

يحمل غضبهُ ويجول بنظره تجاه الركام: "هذا بيتي وُلدت فيه وورثته عن أبي، لديّ إعاقة حركية ومن حقّي العيش والاطمئنان إلى مستقبل أبنائي، فكلّ شيقل وضعتُه في البناء تعبت فيه".

بدأت أولى عمليات الهدم عام 1999، وبعدها بعامين تعرّض بيته للهدم الثاني، لكنّ نقطة التحول الفارقة في حياته كانت عام 2009، ففي أثناء تدافع العائلة مع جنود الاحتلال خلال تنفيذ عملية الهدم للمرة الثالثة سقط حاتم وكُسر عموده الفقري.

لم يكتفِ الاحتلال بالتسبب بإعاقته بل أقعد الرجل المقدسيّ عن العمل، فعاش في بيوت الإيجار لسنوات عدة قبل أن يعيد بناء منزله، على حين أعاد الاحتلال الهدم في الأعوام 2019 و2021، وكأنَّ النكبة تجدّدت في حياته ستّ مرات.

"ستُّ مرات ليس رقمًا مجردًا" يختزن صوته حنينًا للمكان وهو يشرح معاناته لصحيفة "فلسطين": "أنت تتحدث عن فترة تشرُّد للعائلة بعد كلّ هدم، وصراع كبير يستمر ستة أشهر، ونحن نعيش في الخارج، تخرج محمّلًا بالديون وفي كلّ مرة هدم تضيفُ دَينًا جديدًا، في المقابل لا يوجد لدي خيار آخر بالذهاب للعيش بمكان بديل".

حياة تشرّد

أكثر ما يحتاج إليه حاتم هو الصمود، فمبلغ خمسة آلاف دولار التي تصرفها السلطة الفلسطينية لكلّ بيت مقدسي يُهدم لا يكفي لإزالة الردم واستئجار منزل بديل لعدة أشهر.

يقول: "أيّ شاحنة سترفع الهدم لها مكبٌّ خصوصي يحتاج الأمر لترخيص، وكذلك تحصل كل واحدة على مبلغ يزيد على ألفي شيقل، وأجرة المصاريف الإضافية كأجور عمال".

بعد كلّ مرة هدم تبلغ تكلفة بناء المنزل نحو 700 ألف شيقل، وبالنسبة لرجل مقعد هذا "مبلغ فلكي" يضطر لأن يتحامل على نفسه ديونًا، أو بمساعدة بعض فاعلي الخير في دعم صموده وإصراره على البقاء في أرضه وتجاهل محاكم الاحتلال، بكلمات صمودٍ أطلق لها العنان: "لا أعتبر بقرار محاكم ولا مخالفات ولا أمر توقيف أو سجن وسأعمل على بنائه".

بعد هدم منزله العام الماضي استغرق ستة أشهر لإصلاح الطابق الأرضي وبناء الطابق الثاني، "الواحد بتعب، وبتحمّل ديونا وكل المشاكل، وفجأة في عشر دقائق أو ساعة زمن بخلّوه كومة تراب" قالها بصوت مقهور.

يُصارع لأجل طفليه أنس (16 عامًا) ودانية (15 عامًا) بأن يعيشا حياة خالية من التشرّد، لكنّ الطفلين كبرا على همومٍ كبيرة، وهما يرافقان والدهما في كلّ نكبة جديدة تعيشها العائلة مع كل عملية هدم.

يضمُّ الطابق الثاني شقتين، في الشقة الأخرى يجاوره ابن شقيقته ياسين ناصر، الذي كان يستعد هو وزوجته لاستقبال توأم جديد، سيبصر التوأم الحياة ولن يجدا بيتًا يؤويهما وسيفيقان على حياة تشرّد منذ أول أيام حياتهما.

يقول ناصر: "كنت على موعد مع نقل زوجتي للعيادة للاطمئنان على حالة التوأم، فسمعت أصوات الآليات والجرافات والجنود، فاعتقدت أنهم قدموا لهدم منزل في الحي، فنظرت من النافذة ووجدتهم أسفل المنزل، تركت زوجتي تخرج بمفردها، وبقيت أحاول نقل ما أستطيع من الأغراض ولم نستطع نقل سوى النوافذ والأبواب ومنعونا من نقل أغراض أخرى بعد المُهلة المحددة".

كُتب على هذا الشاب وزوجته وطفليهما أن يعيشوا الهدم ثلاث مرات منذ لحظة سكنهم مع خاله حاتم، لكن في مرة الهدم السابقة لم تتحمّل زوجته ما جرى فأُجهض الجنين، ومع أنّ "الله عوضها بتوأم" خصّصا لهما غرفةَ نومٍ بأسرة وملابس جديدة، باتت أثرًا بعد عين.