أما وقد انقضت مسيرة الأعلام الاستفزازية في رحاب المسجد الأقصى، فقد بات واضحا أن حكومة الائتلاف التي تعاني "هشاشة" لا تخطئها العين، انتزعت بعضا من الوقت لاستمرارها في عملها، عقب ظهورها مستجيبة لمطالب المستوطنين، وملبية لدعوات المتدينين، لاقتحام الأقصى، وممارسة شعائرهم التلمودية في ساحاته المباركة.
هذا يعني أن التطلعات الحزبية لرئيس الحكومة نفتالي بينيت الذي يكاد يفقد موقعه لم تكن غائبة عنه، وهو يغامر بالموافقة على تنظيم المسيرة، وفي ذات المسار المخطط له، دون تغيير، بما في ذلك مرورها بباب العامود، وينطبق الأمر على مواقف مختلف أركان الحكومة، بما فيها العلمانية منها كوزراء الأمن الداخلي عومر بارليف، والخارجية يائير لابيد، والحرب بيني غانتس، الذين يحوزون على علاقات سيئة مع منظمي هذه المسيرة، لكن ما جمعهم في هذه اللحظة بالذات هو مستقبل الحكومة، واستقرارها، ولعلهم حصلوا على ما يريدون.
مع العلم أن وصول بنيامين نتنياهو زعيم المعارضة الى ساحة المسيرة للمشاركة فيها، منح مؤشرا جديدا لطغيان العامل الحزبي عليها، ورغبة كل طرف باستغلالها وتوظيفها خدمة لمصالحه الحزبية والانتخابية القادمة، وهو ما حصل سابقا في مسيرة الأعلام 2021، مما توجب على أهل الاختصاص قراءة هذا العامل جيدا هذه المرة، والاستنتاج أن الاحتلال ماضٍ في المسيرة، حتى لو ساهمت بصبّ مزيد من الزيت على نار التوتر القائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ليس سراً أن قرار إمضاء المسيرة المذكورة، بذات مسارها المخطط له، شكًل واحدا من شواهد التنافس الحزبي الداخلي المحموم في الساحة الإسرائيلية، لا سيّما مع زعزعة المقعد الذي يجلس عليه بينيت، وتزايد الحديث عن قرب انهيار حكومته، وتوثب خصومه نحو سن مشروع قانون حل الكنيست، والدعوة للانتخابات المبكرة، من خلال جهودهم الحثيثة لإفشال الحكومة، بالضغوط الممارسة على بعض أعضاء الائتلاف، وإقناعهم بـ"الهروب من السفينة الغارقة".
في الوقت ذاته، عوّلت المعارضة الإسرائيلية على عدم قدرة الحكومة على إنجاز المسيرة، سواء خشية من انفراط عقدها بانسحاب القائمة العربية، أو تسبب المسيرة باندلاع مواجهة عسكرية مع الفلسطينيين، قد تحمل معها شهادة وفاتها، أو توالي الضغوط الأمريكية، لكن أياً من ذلك لم يحدث، والنتيجة أن الحكومة أقرت المسيرة، ولم تسقط، رغم أنها خاضت مغامرة مكلفة.
الخلاصة أن قراءة الموقف، وإعداد تقدير واقعي وموضوعي لمآلات المسيرة، كان يجب أن يأخذ بالضرورة العامل الحزبي الإسرائيلي، كونه المايسترو الذي يحرك الحكومة ورئيسها ووزراءها، حينها كان يمكن، ربما، الخروج بتقدير أكثر ملامسة للواقع، وقدرة على استلهام ما قد يحول دون إتمام المسيرة قبل حصولها، أو حتى خلال ذلك، بإظهار موقف فلسطيني جماهيري شعبي حاشد، يليق بالأقصى والقدس.