أردوغان من الرؤساء القلائل الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، ولدى نظامه الحاكم واستخباراته الوطنية أدوات ووسائل جيدة تمكنه من استثمار الأزمات الدولية لصالح بلاده، وخير مثال على ذلك تحويله الحرب الروسية الأوكرانية من أزمة كادت أن تعصف بتركيا كما خطط الغرب إلى منحة وفرصة تعزز مكانتها.
فتخوف الدول الأوروبية المحادية لروسيا من تكرار سيناريو ما حدث لأوكرانيا من تدمير وتشريد، وتعلل تلك الدول نتيجة ذلك عدم وجودها في حلف قوي تحتمي به، فأسرعت دولة فنلندا والسويد بطلب الانضمام إلى حلف الناتو، فصدمت الدولتين الأوروبيتين المسيحيتين برفض تركيا المسلمة انضمامهم إلى حلف الناتو الملقب "بالنادي المسيحي".
فتركيا المسلمة تعتبر ثاني أكبر دولة تواجداً عديداً وعتاداً في حلف الناتو، ورأيها له أهمية كبيرة ويؤخذ بعين الاعتبار، ولذلك من الطبيعي أن تطلب تركيا من الدول الراغبة في الانضمام تغيير سياساتها التي تتعارض ومصالحها الأمنية، لذلك تريد تركيا من خلال رفض انضمامهم، تحقيق عدة أهداف في أربع أصعدة مختلفة.
أولاً: على صعيد الداخل التركي:
استطاع أردوغان من خلال حالة الرفض هذه أن يستثمرها لتعزيز موقعه ومنافسته الانتخابية القادمة، حتى أنه استطاع أن يحصل على صوت وتأييد المعارضة لخطابه في منبر الناتو، من خلال وضعه مصلحة تركيا أولاً حتى لو كان الطرف الأخر الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية أو حلف الناتو، حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: قبل كل شيء من يفرض عقوبات على تركيا لن نقول نعم لانضمامه إلى حلف الناتو الذي يمثل منظمة أمنية، لأن الناتو حينها يخرج عن مفهوم منظمة أمنية ويصبح مكاناً مكتظاً بممثلي الإرهاب، معبراً عن الخطأ الكبير التي ارتكبته الحكومات السابقة في الموافقة على طلب انضمام اليونان إلى حلف الناتو والتي أصبحت مصدر زعزعة استقرار تركيا.
ثانياً: على صعيد دول الاتحاد الأوروبي:
قال وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو: "أن بلاده تدعم سياسة الأبواب المفتوحة للحلف، وأن بلاده لا تمنع انضمام أي دولة للحلف، لكنها تعارض ضم دول تدعم الإرهاب"، فلذا عللت أنقرة أن رفضها من قبول طلب انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو بمخاوف حقيقية من أهمها:
إيواء الدولتين أعضاء من حزب العمال الكردستاني الإرهابي.
تأييد الدولتين سياسياً لحزب العمال الكردستاني وجماعة عبد الله قولن.
الدعم المالي والعسكري الكبير لحزب العمال الكردستاني.
تقلد أعضاء بارزين من حزب العمال الكردستاني مناصب مرموقة في كلتا الدولتين.
بالإضافة إلى أن كلتا الدولتين كانوا من أشد الدول الأوروبية رفضاً لطلب انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
فلذا تقول تركيا أنه يجب على دول حلف الناتو أن تكون مواقفها الأمنية والعسكرية منسجمة تماماً مع مخاوف ورؤى ومواقف دول أعضاء الحلف، وعدم التسبب في مشاكل أمنية لتلك الدول، وتقول أنقرة أن مرد مخاوفها من تجارب سابقة، مع السماح لانضمام اليونان إلى حلف الناتو التي تسببت في زعزعة استقرار تركيا.
فلذا اشترطت تركيا على الدول الأوروبية التي تريد الانضمام إلى الناتو بعدم دعم الأحزاب الإرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني وجماعة عبد الله قولن المعاديتين لتركيا، وإعلانهم أحزاباً إرهابية، وعدم احتواءهم أو توفير ملاذ أمن لهم على أراضيهم، بل وتسليم أعضاءهم الموجودين في تلك الدول إلى تركيا والكشف عن خلاياها ومواردها المالية والعسكرية.
فقابلت السويد موقف تركيا الرافض باللين حيث صرحت وزيرة الخارجية السويدية "ان ليندي" أن بلادها تعتبر حزب العمال الكردستاني تنظيماً إرهابياً.
وكذلك مما دفع وزير خارجية سويسرا "إجنازيو كاسيس" بالقول: لقد أدركنا أهمية بناء علاقة جيدة مع تركيا وسنرتقي بمستوى علاقتنا مع تركيا بشكل أفضل.
ثالثاً: على صعيد الولايات المتحدة:
يعتبر رفض قبول طلب فنلندا والسويد موجه إلى الولايات المتحدة الراعية للنيتو بشكل أساسي، بسبب العقوبات الأمريكية التي فرضت على تركيا أبان أزمة صواريخ S400 الروسية، فطردتها من مشروع تصنيع طائرات F35 الأمريكية، وكذلك رفض الولايات المتحدة إتمام الصفقة التعويضية لطائرات F16 المطورة.
وكأن تركيا تريد أن تقول للولايات المتحدة، ما زالت لدينا أوراق قوة نمتلكها للمناورة، فبالتالي تريد من الولايات المتحدة رفع العقوبات عنها وإتمام صفقة طائرات F35 الأمريكية، وكذلك صفقة F16 المطورة، بالإضافة إلى إعلان حزب العمال الكردستاني وجماعة عبد الله قولن أحزاباً إرهابية، بالإضافة إلى المساعدة في الحرب ضد الإرهاب.
رابعا: روسيا الاتحادية:
طلب انضمام السويد وفنلندا التي لها حدود أكثر من 1300كم مع روسيا لحلف الناتو، سوف تصبح حدود روسيا مع حلف الناتو المعادي لها قرابة 2000كم بعد تدخلها في أوكرانيا، وبالتالي يعتبر من أهم أهداف روسيا هو عدم انضمام فنلندا إلى حلف الناتو، فلذا هي بأمس الحاجة إلى تركيا لمنع عملية انضمامهم إلى حلف الناتو، وكأن تركيا تريد أن تقول لروسيا، بأنهم ما زالت لدينا أوراق قوة تمتلكها للمساومة، فبالتالي تركيا التي يوجد بينها وبين روسيا الكثير من المصالح المشتركة والمتشابكة والمتعارضة، تستطيع من خلالها تحقيق مصالحها من روسيا في ميادين أخرى.
وللإجابة على سؤال مهم يقول: هل يمكن لتركيا الاستمرار بمنع انضمام كلاً من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو حتى لو جميع دول أعضاء الحلف موافقين على انضمامهم؟
نعم توجد لدى تركيا إمكانية منع انضمامهم إلى الحلف في حال التمسك بالرفض، ولا يتم انضمامهم إلا بموافقة جميع دول أعضاء الحلف، وذلك حسب قانون النظام الداخلي لحلف الناتو، وكذلك توجد هناك سابقة مماثلة لذلك حيث استطاعت اليونان تعطيل دخول مقدونيا إلى حلف الناتو أكثر من عقدين من الزمن منذ عام 1993 وحتى عام 2017، بسبب الاسم وبعض الشعارات على العلم فرضخت مقدونيا إلى شروط اليونان فسميت بمقدونيا الشمالية وكذلك رفعت بعض الشعارات من العلم بسبب الخلاف على من هو الوريث التاريخي للإرث الإغريقي.