جاءت آياتُ الحديث عن الغنى بكونه سببًا محتملًا للطغيان بُعيْد آياتٍ في صدر "العلق" تتحدث عن أصل خلقة الإنسان، والأهمية الكبرى للقراءة في البناء الحضاريّ للإنسان والأمّة، وهو ما يعني بالضرورة أنّ المرء ما أحسن ارتباطَه بالله وتذكّر تعلّقَه به باعتبار أصله علقةً، وغذّى نفسه علميًّا وأدرك سببَ وجوده في هذه الحياة، وأنّ عليه خدمةً واجبةً في إطار انتمائه للإنسانية، كان في تلك اللحظة الفارقة موسّعًا على خلق الله تعالى، بل قل موسّعًا على نفسه ذاتِه وذاتِها؛ لأنّ الذي أعطاه دلّه على طرق المحافظة على النعمة وتنميتها.
ثم انظر هنا إلى السياق الآيويّ البديع؛ إنّ الله لم يقل إنّ الغنى سببٌ في الطغيان؛ لأنّك ستجد في واقعك المعيش أناسًا تفضّل الله عليهم بالتوسعة والرزق ولكنهم لا يبخلون على عباد الله، ويستشعرون أنهم مؤتمنون على المال الذي في أيديهم، وأنّ واجبَهم أن ينفقوا ممّا جعلهم الله مستخلفين فيه، وإذا زاد إيمانهم أيقنوا أنه لا نقصَ لمالٍ من صدقة، ولا نقصَ لصدقةٍ من مالٍ، ليبرهنوا بصدق ما يصنعون على قاعدة "أنفقْ ولا تخشَ من ذي العرش إقلالًا"؛ فالصفقة مع الله لا خسران فيها ولا تراجع، ويضاعف لأصحابها ما يقدمونه أضعافًا مضاعفة.
فلعلّك تسأل: فما المشكل إذن؟ والإجابةُ تخبرك به الآية في كلمةِ سرِّها "أن رآه"؛ فسبب طغيان المذكور أنّه لم ينظر لاستعمال المال من زاويةٍ صحيحة، وزعم أنه جمعه على علمٍ عنده، وبكدّه وجدّه، واجتهاده وتعبه، فهو يرى نفسَه أولى به من غيرها، ويرى أن كنزه وخزْنه مِن حقّه حتى وإن مات خلقٌ بسبب منعه، وإن تضرّر ناسٌ جرّاء بخله وشحّه!
تأتي القارعة (كَلَّا) للتحذير والتوبيخ، والمؤكدة (إِنَّ) لبيان الكثرة لا القلة في الأصناف التي تحوز على المال وتمنع؛ وفاقا لقوله تعالى "وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا" [الإسراء: 100]؛ بلفظ (الإنسان) على الجنس والعموم، الذي هو في العلق نفسه (الْإِنسَانَ)؛ "لَيَطْغَى"؛ فبدل أن يؤديَ شكرَ الله تعالى بتوفيقه إلى ما حُرم منه كثيرون، إلا أنه يتجبّر ويتكبّر ويعلن بسفاهة وسخافة وقبحٍ لا يليق أنّ أموالَه له رغم أنه لم يولد بها ولن يرحل بها، ولو صنع مثل أولئك الذين أخذوا كثيرًا من أموالهم وذهبهم وطعامهم بزعم الانتفاع به في عالم البرزخ، إلا أنه لم ينفعهم مطلقًا، ولا ضرب حاجزًا دون دودٍ يأكلهم وسرَّاق يسلبونهم، وعوامل حتّ وتعرية لا تبقي ولا تذر!
"أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى" [العلق: 7]؛ إنه مبدأٌ تأصيليٌّ في كل مشهد لما يوهم به المرء نفسه فيرى خلاف الواقع واقعًا، وغير الحق صوابًا؛ إنه كلابسٍ نظارةً سوداءَ يرى أسباب التشاؤم بها، "يداه أوكتا وفُوه نفخ"، وكملبِّسٍ نفسَه بالباطل يزعم أنه الحق، ويجد له عليه أعوانًا، لكنه في داخل نفسه الجاحدة على سبيل "وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ"، لكن سبب الانحراف "ظُلْمًا وَعُلُوًّا"؛ فهم ظالمون لأنفسهم متعالون على غيرهم حتى وإن كانوا أحسنَ منهم وأفضلَ.
ولا يزال النظر الخاطئ الخطأ في تحديد طبيعة الانتماء للمال يجعل المرء على غير دين أو على مذهب العدوّ يجري مع كل سافلٍ ومنحطّ، لدرجة أن تربطه مصالحه الاقتصادية بأعداء أهله المباشَرين الظالمين المفترين فينسّق معهم اقتصاديًّا، كما قال ربنا "إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ" [القصص: 76]؛ جريًا وراء مصلحته، وإذكاءً لثروته بالحرام المحض، دون يرقب إلًّا ولا ذمّة ولا قرابةً. ولا حول إلا بالله.