ما زالت الهجمات الفدائية الأخيرة تترك تأثيراتها في الاحتلال الذي تطرح أجهزته أمنية تساؤلات دون إجابات واضحة حول هوية منفذي سلسلة العمليات الأخيرة، لكون اثنتين منها على الأقل أتتا من منطقة جنين ومخيمها، إذ توجد بوتقة انصهار، وهي أرض خصبة للوطنية والعمل المقاوم، وفي كل مرة يفشل الاحتلال فيما يصفه بـ"تحييد" الديناميكيات الخطيرة في تلك المنطقة، إذ يندلع التصعيد بين حين وآخر.
ما يربك الاحتلال ومنظومته الأمنية المصدومة من توالي هذه العمليات، وفي زمن قياسي قصير، أن منفذيها ليس لهم سجل أمني، ولا ينتمون لمنظمات مسلحة، وتشكل هذه الأوصاف تحديًا كبيرًا للاحتلال، لأنه يكسر إلى حد ما الإجماع بشأن الخصائص التي يتوقع أن يجدها في المقاومين الفلسطينيين، ممن لديهم خلفية أمنية، أو غير متعلمين، أو قادمين من عائلة منخفضة الدخل.
أكثر من ذلك، فإن النظر في السير الذاتية لمنفذي الهجمات الفدائية يكشف أن بعضهم يعيش في منزل فخم، بتصميم معماري دقيق، ما يدل على حياة راسخة وثرية، وهنا أيضًا تحطمت فرضية الأمن الإسرائيلي بأن موافقة المقاوم على الانخراط في العمليات يأتي بسبب وضعه الاجتماعي والاقتصادي الصعب، ما قد يشكل دافعًا للأمن الإسرائيلي لتبني مخطط جديد، وفهم دوافع تنفيذ الهجمات الفدائية، بأنها تفاعل بين الملف الشخصي وتأثير البيئة، معاً.
مع العلم أن الفرضيات التي دأب الاحتلال على ترويجها في السنوات الأخيرة الخاصة بمنفذين محتملين لعمليات المقاومة، تركزت في الأشخاص المعرضين للمآسي الشخصية منذ سنين، وهو بذلك يركز عادة على نموذج واحد، عادي نسبيًا، وليس لديهم ما يخسرونه، ولديهم إيمان متعصب، أو أيديولوجية دينية، وليس لديهم سبب للاستيقاظ في الصباح ولديهم دافع بتنفيذ هجوم فدائي، مع الأخذ بالحسبان أن بعضهم، كما تبين لاحقًا، لديه نزعة زائدة للتعرف إلى قصص الشهداء في ذلك "العالم الآخر"، وفق التعريف الأمني الإسرائيلي.
حين ينظر ضباط التحقيق الإسرائيليون في المواصفات الخاصة بمنفذ كل عملية، يصابون بالصدمة، وقد يكونون محقين في ذلك، لأنهم لا يأخذون بالحسبان معايير أخرى لا يدركونها، لا تتعلق بوضع اجتماعي، أو مستوى تعليمي، أو دوافع ذاتية، وتلك المعايير تجد طريقها إلى ميدان المواجهة دون توفر علامات مبكرة، وتتعلق بالوطن والدين والفداء، وهذه بنود غير قابلة للقياس والتقويم لدى أولئك الضباط الذين يضعونها جانبًا عند دراسة كل عملية على حدة.
من أجل هذه الأسباب يقع الأمن الإسرائيلي في مشكلة أساسية في عدم التعرف إلى الميول غير المرئية لمنفذي العمليات، وهي ميول قد لا تكون متوفرة في كتب الأمن وعلم النفس ودراسة الشخصية، المستخدمة لمعرفة دوافع منفذي الجرائم الجنائية، وليس الهجمات الفدائية ذات الأبعاد الوطنية والدينية.