شكلت الساعات الأخيرة من اقتحام الاحتلال لساحات المسجد الأقصى، تتويجاً لعدوان يشمل معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة، باعتبارها حصيلة تطورات أمنية وميدانية متلاحقة فيها، صحيح أن أسبابه المباشرة تمثلت بنوايا المستوطنين لأداء طقوسهم الاستفزازية في ساحاته، لكن هناك أسبابا تمثلت بالإجراءات الإسرائيلية الخاصة بتشديد سياسة القمع والضغط على الضفة الغربية، خاصة مدينة جنين، فضلا عن موجة الهجمات الفدائية التي استهدفت الاحتلال، وأوقعت قتلى وجرحى إسرائيليين.
يضاف لذلك كله الصور الواردة من المسجد الأقصى حول الاستفزازات المستمرة للمستوطنين، مما وفر المزيد من الوقود للواقع المشتعل في الأراضي الفلسطينية، مع اكتمال استعداداتهم لبدء أيام عيد الفصح، وما قد يصحبه من طقوس وشعائر تستفز مشاعر الفلسطينيين، مما يعيد للأذهان مخطط مسيرة المستوطنين التي كانت ستتم في رمضان الماضي، لولا تدخل المقاومة في اللحظات الأخيرة، واندلاع معركة سيف القدس، وقبلها بعشرين عاما حين اقتحم شارون الأقصى، وانتهى الأمر باندلاع الانتفاضة.
صحيح أن الاستفزازات الإسرائيلية في الأقصى ليست جديدة، بل استمرار لمحاولات سابقة، لكن جرعتها زادت هذه المرة بتزامنها مع دخول النصف الثاني من شهر رمضان، وهي أيام تكتسب قدسية خاصة، وكأن الحكومة الحالية تريد البقاء في السلطة، ولو على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة في القدس والأقصى، رغم أن أي مساس بهما كفيل بإشعال المنطقة، وهو ما حذرت منه المقاومة، وخبره الاحتلال جيدا.
إضافة لذلك، هناك بُعد إسرائيلي داخلي لا تخطئه العين صبّ مزيداً من الزيت على نار التوتر القائم، وهو حالة التداعي الجارية للحكومة القائمة، لا سيّما عقب استقالة رئيسة الائتلاف، وقربه من الانهيار الفعلي، وإمكانية خضوع رئيسها لمطالب المستوطنين بتنفيذ طقوسهم المستفزة في ساحات الأقصى، ومنحهم كامل الحرية في تنفيذ مخططاتهم التهويدية في القدس المحتلة، مع أن بينيت ليس الوحيد في هذه السياسة "الأنانية" التي قد تشعل دولة الاحتلال فقط من أجل مصلحته الشخصية، فقد سبقه نتنياهو، حين رأى ما يحدث في القدس والأقصى، لكنه تعمد غض طرفه عن سلوك المستوطنين حينها.
لقد كشفت اقتحامات المسجد الأقصى في الساعات الأخيرة عن عدة دلالات؛ أولها أنه أكثر المتفجرات حساسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وثانيها أن حدثاً تكتيكياً صغيراً يشهده قد يؤدي لاشتعال في عدة قطاعات جغرافية، وثالثها نجاح رواية الفلسطينيين في تأجيج المواجهة عالمياً، ورابعها وفي كل ما يتعلق بالأقصى، فإن دولة الاحتلال قابلة للطي والانطواء والتراجع، بدليل أنها تراجعت عن طقس ذبح القرابين، ولو مؤقتاً، لكن ذلك جاء تحت تهديد المقاومة.