هناك ساعة حرجة يبلغ الباطل فيها ذروة قوته، ويبلغ الحق فيها أقصى محنته، والثبات في هذه الساعة الشديدة هو نقطة التحول. هذه العبارة لفارس الدعوة محمد الغزالي رحمه الله وأسكنه فسيج جناته، ولعل الأمة اليوم تمر بحالة ضيق شديد، فيكفي تتبع الأحداث السياسية التي حدثت مند بداية شهر رمضان لنلاحظ حجم التحديات ودرجة الانحدار، ففي فلسطين المحتلة تصعيد خطير ضد الشعب الفلسطيني وانتهاكات متكررة للمسجد الأقصى من قبل مستوطنين وعمليات قتل بالجملة لفلسطينيين قتل عشوائي وبالشبهة، وكم أحزنني مشهد قتل الشهيدة غادة إبراهيم سباتين الأرملة الفلسطينية الأربعينية، والتي خرجت وهي صائمة إلى السوق، لكنها لم تعد إلى أطفالها الستة، فقد قرر جيش الاحتلال الغاضب سفك دمها بدم بارد على إحدى الحواجز الأمنية، بدون أن تشكل للجنود أي تهديد كما أظهرت الفيديوهات، والأخطر من ذلك هو موقف السلطة الفلسطينية وصمت القيادات العربية والإسلامية وحالة الغثائية التي تمر منها أغلب الشعوب العربية والإسلامية فهل هذه الشعوب خضعت لسطوة التطبيع مع الكيان الصهيوني؟ وماذا لو كانت هذه السيدة أوكرانية والجنود الذين اغتالوها روس؟ رحم الله كل شهداء فلسطين وتحية لكم فأنتم شرف الأمة وعنوان نهضتها، وتعسا لكل المتخاذلين والمتصهينين والمطبعين مع الكيان الغاصب.
و ما يحدث على أرض فلسطين المحتلة عامة والقدس خاصة يبشر بانتفاضة جديدة، ونصر قادم لا محالة صناعة أحرار فلسطين وأحرار الأمة الإسلامية في كل مكان، ورغم حزني وألمي إلا أني متفائل ولست خائفا على القدس والمسجد الأقصى، لأن القران الكريم الذي يشكل دستور المسلمين في كل زمان ومكان، رغما عن أنف حكام وساسة كل هذا العالم، هذا الدستور فيه سورة تلخص الحكاية وتتضمن سند ملكية رباني أبدي للقدس ومعه “الأرض المباركة” لا يستطيع أحد أن ينزعه من المسلمين طال الزمن أو قصر، فقد قال تعالى في مطلع سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} [الإسراء : 1-7]، هذا الوعد مقترن بالإيمان بالله وإتباع كتاب الله وسنة نبيه المصطفى، وهذا هو مفتاح النصر والتأييد، إلى جانب الأخذ بأسباب القوة والخروج من دائرة الغثائية والضعف مصداقا لقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال : 60]
فقضية القدس وفلسطين ليست مجرد قضية أرض وشعب وخبز وتسهيلات اقتصادية، وإنما هي قضية عقيدة بدرجة أولى، ومن يتنازل عن القدس وفلسطين فهو يشكك في حجية وقطعية دلالة القران الكريم، ويكذب رواية إسراء رسول الله عليه الصلاة والسلام وإمامته للأنبياء بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء، ويفرط في ثالث الحرمين وأولى القبلتين، فالقدس وفلسطين تفدي بالغالي والنفيس لأنها قدس الأقداس في عقيدة أهل السنة والجماعة، والتفريط فيها لا يقل في إثمه عن التفريط في الحرم المكي أو الحرم النبوي.
بل إن القدس شكلت ولاتزال تشكل في الوجدان الديني المسيحي والإسلامي أهم منطقة في العالم، فجمال القدس وعظمتها لم تستدمهما من بناياتها ولا جغرافيتها المتميزة أو موقعها الجيو-استراتيجي، وإنما نابعة من كونها مهدا لكل الديانات السماوية فهي الأرض المباركة التي بنا بها أدم عليه السلام ثاني مسجد بعد البيت الحرام، وهي المدينة التي هاجر إليها الخليل إبراهيم عليه السلام وهي الأرض التي اشتاق موسى عليه السلام لدخولها وقومه بعد الخروج من مصر، وما دخلوها إلا في عهد داوود عليه السلام، وهي المدينة التي ولد بها المسيح ابن مريم، وبالأقصى الشريف صلى محمد عليه السلام بكل الأنبياء ومنها صعد إلى سدرة المنتهى.
هذا الإرث الديني للقدس جعل فلسطين أو أرض كنعان تتعرض للعديد من الغزوات الكبيرة، كغزو الفلسطينيين لساحل فلسطين أو كغزو الآشوريين والبابليين والفرس والمقدونيين ثم الرومان، وذلك قبل ميلاد المسيح عليه السلام، ثم غزوات الصلبيين والتتار في القرون الوسطى وبعد الفتح الإسلامي للقدس.
ومن مؤشرات المكانة السامقة للقدس هو تضارب الروايات التاريخية حولها، لا سيما في أوساط الباحثين الأوربيين والمستشرقين، الذين عملوا منذ القرون الوسطى، على تزييف الحقائق ودس روايات مجانبة للواقع التاريخي للمدينة ومحركهم في ذلك: 1 – العداء للإسلام و2- سيطرة الأساطير التوراتية على وجدانهم و3 – تحريض شعوبهم على استعمار هذه الأرض والسيطرة عليها وهو ما تحقق فعلا من خلال الحملات الصليبية، وتتحقق في عصرنا هذا بالاحتلال الصهيوني لعموم فلسطين والقدس الشريف.
ولعل تركيز المقال على هذه المعطيات التاريخية والجانب الديني هو عنصر أساسي في فهم الصراع العربي – الإسلامي من جهة والصهيوني -الصليبي من جهة أخرى على أرض فلسطين عامة والقدس خاصة، فالعرب والمسلمين تدعمهم الحقائق التاريخية منذ ما قبل ميلاد المسيح بآلاف السنين، فمن استوطن فلسطين قبل أن يدخلها النبي إبراهيم عليه السلام، بعدما خرج من العراق هو وابن أخيه سيدنا لوط في عهد الملك الطاغية “النمرود”، متجها إلى فلسطين والتي كان يحكمها الملك العربي “ملكي صادق”، هم العرب الذين هاجروا إليها من الجزيرة العربية، ففلسطين لم تكن يوما أرضا بلا شعب كما يدعي الصهاينة، فأول من عمرها هم العرب وهو ما تدعمه الدلائل التاريخية..
بل إن ما تزخر به الأساطير التوراتية هو مجانب للصواب، واليهود لم يعمروا فلسطين إلا في فترات تاريخية متقطعة، والقران الكريم يعطي للمسلم سرد تاريخي لمراحل الوجود اليهودي في فلسطين.. ولما كان المقال بطبيعته لا يسمح بسرد كل التفاصيل حول تاريخ فلسطين والقدس، فان جوهر ما يسعى إليه هذا المقال، هو دفع المواطن العربي إلى قراءة تاريخ فلسطين بتمعن وعبر مصادر متعددة، تحترم مبدأ الموضوعية التاريخية والتسلسل الكرونولوجي للأحداث بعيدا عن الذاتية والهوى السياسي أو العقدي وبعيدا عن علماء وفقهاء وإعلام السلاطين، وتجنب الرواية الغربية والرواية الصهيونية التي زيفت عن عمد العديد من الحقائق التاريخية وصورت الباطل حقا والحق باطلا.
و للأسف خروج من يقول بأن القدس وفلسطين ليست في سلم أولوياتنا كمسلمين وعرب هو نتاج لعملية غسيل المخ والتي نجح فيها الصهاينة كما نجحوا في عملية الغسل السياسي والاقتصادي والتاريخي، وذلك بتواطؤ مع أنظمة سياسية عميلة ضيعت الأوطان مقابل الحفاظ على الكراسي والمكاسب.
فلسطين والقدس هي قضية كل مسلمي العالم بل قضية كل الأحرار، والحق العربي والإسلامي لا يمكن إنكاره ومن يفكر في غير ذلك فهو ينفذ أجندة الصهيونية، لذلك المعركة حول فلسطين والقدس، ليست معركة يحسمها السلاح وإنما هي معركة وعي وإدراك لطبيعة النزاع، فهو نزاع ديني بين عقيدتين إحداهما لا تزال تحتفظ بصفائها الرباني، وأخرى حُرِفت وتحكم فيها الهوى البشري، فنصرة القدس والانتصار لها هو بخلاصة انتصار للعدل وللحق، وللأمل في غد تخرج فيه الإنسانية من ظلم الاستبداد ووجور الهيمنة والعبودية الاقتصادية والسياسية إلى رحابة وسماحة وعدل الإسلام…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.