هناك مدن اشتهرت عبر التاريخ بصمودها الأسطوري في مواجهة الاحتلال، وصاغت قصصًا ملهمة ما زالت الشعوب تستلهم منها قوة الإرادة والتحدي وتجاوز معايير المنطق في موازين القوة، وربما كانت مدينتا ستالينجراد وليننجراد من أشهر تلك المدن لكونها صمدت إبان الحرب العالمية الثانية في وجه الغزو النازي، وكان لصمودها الأثر البالغ في هزيمة النازية وسقطوها المدوي بعد أن كادت تُخضع القارة الأوروبية كاملة على لحكمها على الأقل.
لا أعتقد أن جنين وغزة في فلسطين تقلان عن ستالينجراد ولننجراد في صمودهما الأسطوري حيث تصمد المدينتان في مواجهة العدو الصهيوني، ويتشابه هذا الصمود ليس فقط في القدرة على التحدي وتجاوز نظريات القوة ولكن يتشابه الصمود في طبيعة العدو الذي يُقاوم، فالصهيونية اليوم نسخة مشوهة من النازية البائدة، بل يتميز صمود جنين وغزة في القدرة على الاستمرار في المقاومة رغم الفارق الهائل في موازين القوة وانعدام الدعم وإطباق الحصار المستمر على غزة والتنسيق الأمني على جنين، وذلك لم تعرفه المدينتان الروسيتان مضرب المثل في التاريخ حيث كانت المدينتان تتلقيان الدعم المستمر من الجيش الروسي ولم تعرفا أبدًا خيانة تشبه خيانة التنسيق الأمني.
فإذا كانت النازية البائدة قد دعت إلى تفوق العرق الآري وجعلت من هذا الأساس العنصري دافعًا أيديولوجيًّا لحربها التي شملت أوروبا كلها والعالم من بعدها، فإن الصهيونية قد جعلت من الدين رغم شتات العرق أساسًا عنصريًّا لاحتلالها لفلسطين، ومارسته بكل وقاحة بجلب أعراق وإثنيات لم تطأ أقدامهم فلسطين يومًا ليستوطنوا فيها بزعم الحق الإلهي، صمود المدن الروسية في وجه الغزو النازي كان من خلفه تحالف دولي كبير اجتمع فيه الشرق الممثل بروسيا والغرب الممثل ببريطانيا والولايات المتحدة، جعل من صمود هاتين المدينتين بداية سقوط النازية التي جُرمت بعد ذلك وأصبحت سبّة في جبين كل متطرف يدعو إلى تفوق العرق، بل وأصبح لفظ النازي يطلق على الشخص المجرم الذي لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم بحق الإنسانية، رغم التشابه بين النازية والصهيونية إلا أن الأخيرة تحظى بكل دعم وتأييد من الغرب -الذي حارب النازية- الذي ذهب بعيدًا في الدفاع عن هذه العنصرية المقيتة بدعوى باطلة أن من حق هذه العنصرية أن تدافع عن نفسها ولقد تعدى الدعم إعطاءها حق الدفاع إلى درجة وصف عمليات المقاومة التي تتصدى لها بالإرهاب بل ومعاقبة كل من يحاول أن يتصدى لنفوذها المتغلغل في العالم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل لقد سنت التشريعات التي تخدم تمدد هذه الصهيونية ويجري الآن معاقبة منظمة العفو الدولية التي وصفت الكيان الصهيوني بالعنصرية بقطع التمويل عنها، وذلك بعد أن شهدنا مثل هذا السلوك تجاه مجلس حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية حينما صدر عنهما بعض الإجراءات التي تدين تصرفات هذا الكيان أو سعت لمحاسبته على جرائمه.
مدينتا جنين وغزة تصدتا المرة تلو المرة للهجمات الوحشية التي شنها الكيان الصهيوني على قلة الإمكانات وما زالتا تشدان من أزر بعضهما بعضًا وشهدنا ملاحم بطولية منذ عام 2002 حتى اليوم وعلى مدار اثنين وعشرين عامًا كانت أبلغ وأعظم من مقاومة كثير من المدن، ولكن لم تشفع هذه المقاومة المجيدة التي عبرت عن الضمير الإنساني الجمعي برفض الظلم ومحاربته، لم تشفع لهما في أن ينالا ولو قسطًا قليلًا من الدعم الذي نالته مدن أخرى مر عليها طيف مما مر بهما.
جنين اليوم تسمو من جديد وتشد عضدها بغزة وتسطر التاريخ مرة أخرى رغم الخذلان العربي الذي وصل إلى قاع المهانة بإدانة المقاومة لصالح العدو المغتصب ولم يكتفِ بالصمت المعيب.
الصهيونية تتطاول اليوم على الإنسانية في ظل صمت مطبق من المجتمع الدولي الذهب هب للدفاع عن "حق كييف في الدفاع عن نفسها" بل وزرودها بكل وسائل الدفاع ووفر لها الدعم السياسي والاقتصادي، ما زال صوته عاليًا لم يخفت ولكن لكييف فقط أما جنين وغزة فلا ناصر لهم.
الإحباط الذي قد يشعر به كل فلسطيني لا يولد استكانة ولن يقتل روح المقاومة في نفسه بل سيطلق مكامن التحدي لديه كلما زاد الإحباط من المجتمع الدولي، ولذلك رأينا هذا التحدي يتجلى في بطولة عز نظيرها في النقب والحضيرة وتل الربيع وجنين.
وكما أسقطت المدن المقاومة قبل ثمانين عامًا الغزو النازي وكما أوقفت المقاومة الأوكرانية الهجوم السوفيتي ستوقف جنين وغزة تطاول الصهيونية، وستؤول إلى نفس المصير الذي آلت إليه النازية، وسيحدث التاريخ الأجيال القادمة عن صمود جنين وغزة وستظل البطولات التي قدمها أبطال المدنيتين منارات مضيئة لكل الأحرار.