بجانب المنبر داخل المصلى الرئيس بالمسجد العمري الكبير بمدينة غزة، يجلس المواطن محمد زقول الذي ترك مساجد بلدة بيت لاهيا وجاء ليقرأ القرآن الكريم بين جنبات أول مسجد بني في غزة، يدخل في جلسة عناية روحانية ينعزل فيها عن العالم يوفرها المكان العامر بالمصلين، ويشتم عبق التاريخ من حجارته الأثرية.

"تشعر أن الأجواء الروحانية هنا عالية"، يقول زقول وهو يجول بنظره تجاه زوايا المسجد، "فكما تشاهد، هناك أناس يقرؤون القرآن، وآخرون يتجمعون في حلقات علم وذكر، لا يوجد وقت لتهدره؛ تشعر أن أجواء شهر رمضان بالمسجد مختلفة، وأنَّ الجميع معني أن ينهل من الحسنات".

ويساعد مساحة المسجد الواسعة في ذلك، "فترى أعدادًا كبيرة يقرأون القرآن لكن لا أحد يشوش على الآخر، وهناك لجنة إفتاء ومتخصصين يمكن اللجوء إليهم والاستفسار عن أي مسائل فقهية".

يرتفع نظره تجاه سقف المسجد الذي تكسوه قبابٌ تحملها تيجان رخامية وأعمدة أثرية توثق كل جزء من المسجد حقبة تاريخية معينة، رومانية وبيزنطية ومملوكية وعثمانية اختلفت فيها النقوش بعد أن كان المسجد بالبداية كنيسا ثم تحول مسجدًا.

السكون يفترش المسجد إلا من تمتمات القراء التي لا تسمعها إلا عندما تقترب من أحدهم، بهدوء وسكينة الجميع يركز في تقليب صفحات القرآن الكريم المفتوحة أمامه يجلسون بشكلٍ فردي أو ضمن حلقات جماعية في صحن المسجد وأروقة وزواياه، منها حلقة خصصت لسرد تاريخ فلسطين والمعارك والانتصارات الإسلامية.

أجواء المسجد الأقصى

"بتحس حالك بتصلي بالأقصى"، هذه عبارة ستسمعها كثيرًا، عندما تسأل المصلين عن أجواء رمضان في المسجد العمري الكبير كما سمعناها نحن من كل شيء قابلناه.

يتهادى إلى سمعك أثناء مرورك داخل الرواق الغربي بصحن المسجد المفتوح على السماء، صوت تلاوة طفلتين ترتديان ثوب صلاة وتجلسان مع والدهن نصر عليوة الذي يتوسد أحد الأعمدة، ولم يجد أفضل من هذا المكان ليعلم طفلتيه التلاوة والتجويد، ويقرأ معهما القرآن قادمًا من منطقة التفاح بمدينة غزة، يصف أجواء رمضان بالمسجد العمري بـ"الجميلة والمختلفة عما يعيشه في أي مسجد آخر بالمدينة التي يغلب عليها طابع البناء الحديث".

داخل الرواق نفسه يجلس الحاج أبو محمود على كرسيه المعتاد يوميًا يتلو القرآن الكريم، وهو يحرص على ورود العمري بين صلاتي الظهر والعصر منذ سنوات طويلة قادمًا من حي النصر بمدينة غزة. يقول مستذكرًا بداية قدومه إلى المسجد: "بدأت القدوم إليه منذ ثلاثة وثلاثين عامًا، ويوميًا آتي من حي النصر إلى المسجد العمري للصلاة وتلاوة القرآن والاستماع لدروس العلم والدين، والجلوس مع الأصحاب والأخلاء".

يجذب الشكل الهندسي للمسجد المواطنين من كل أحياء مدينة غيرها للقدوم والصلاة فيه خاصةً يومَ الجمعة، يقول مسؤول إدارة اللجان في المسجد محمد خليفة: إن المصلين "يشعرون بعبق المسجد الأقصى عندما يأتون للمسجد العمري وهذا ما نسمعه منهم".

هذا التوافد الكبير يزيد الأعباء على إدارة المسجد، يقول خليفة لصحيفة "فلسطين": إن هذا العبء يتضاعف في العشر الأواخر لا سيما ليلة السابع والعشرين من رمضان، حيث يمتلأ المسجد بالمصلين الذين يتناوب على إمامتهم أكثر من 20 قارئًا في صلاة القيام منذ أن هل الهلال.

براعة هندسية

لا يمكنك عند الوصول للمسجد أو الحديث عنه، تجاهل تاريخه، يقول طارق هنية بينما كان يراجع ثلاثة كتبًا دينية في مكتبه بجانب المنبر، قبل أن يصطحبنا في جولة تاريخية مارًا على مراحله التاريخية الستة، كانت الأولى قبل 3700 سنة، في الاحتلال الفرعوني بعد الحروب مع "الهكسوس" الذين كانوا يتواجدون جنوب فلسطين، وبنى الفراعنة معبدا وثنيا لعبادة الشمس، لكنه دُمر بعوامل أمطار، زلازل، حروب.

وفي بداية القرن الخامس الميلادي سنة 407 ميلادي، أقام الرومان على أنقاض المعبد كنيس "برفيريوس" ودمرت بنفس العوامل، وفي الفتوحات الإسلامية الأولى أرسل الخليف عمر بن الخطاب القائد عمرو بن العاص لفتح بلاد الشام وأمره ببناء المساجد بالقرب من كل كنيسة وليس مكانها بناء على بنود العهد العمرية مع البطريق "صفرونيوس". وفق هنية الذي يعمل مرشدًا سياحيًا في وزارة الأوقاف

وفي سنة 1149 ميلادي وفي أثناء الحملة البيزنطية الثانية تم تدمير المسجد بالقوة، وأقاموا كنيس "يوحنا المعمدان" ولا تزال موجودة وهي عبارة عن ثلاثة أروقة بالجهة الشمالية في المصلى الداخلي بارتفاع ما بين 12- 18 مترًا.

وبين أن المسجد أعيد بناؤه في زمن الفتوحات الإسلامية الثانية في عهد المماليك، وأضيف إليه رواق رابع بالجهة الجنوبية وفتحوا له بابًا يطل على شارع "عمر المختار" حاليًا، أطلق عليه باب عمر بن الخطاب ومن هنا جاءت تسميته بالمسجد "العمري".

وقبل 300 عام في عهد الخلافة العثمانية أضيف على المسجد المنطقة الغربية والتي تضم المكتبة وتعد ثاني أقدم مكتبة في فلسطين بعد مكتبة المسجد الأقصى، والمنطقة الشمالية الغربية التي تضم المتوضأ القديم، وتبلغ إجمالي مساحة المسجد أربع دونمات ليصبح ثالث أكبر مسجد أثري في فلسطين بعد "الأقصى" ومسجد أحمد باشا الجزار في عكا، مشيرا إلى أن المسجد تعرض للقصف من سفن بحرية بريطانية في 15 أبريل/ نيسان 1917 أدى لتدمير جزء من كبير من المصلى والمئذنة بالكامل وجزء من الساحة الشمالية وبعد تسع سنوات جرى ترميمه وإضافة المحراب والمنبر الموجود حاليًا.