مع ما شهدته مدينة جنين ومخيمها في الساعات الأخيرة من اشتباكات مع الاحتلال، وعرقلة اقتحامها، رغم التعزيزات المكثفة، وأعادت لأذهان الإسرائيليين ما شهدته قلعة شمال الضفة الغربية، قبل عشرين عاما بالتمام والكمال، في مارس 2002، إبان تنفيذ عملية السور الواقي، وأوقع المقاومون خلال تصديهم لقوات الاحتلال عشرات القتلى من جنودها.
اليوم، وفي أبريل 2022، وكأن عشرين عاما من الاستئصال والملاحقة للمقاومة من أطراف عديدة، وعلى رأسها الاحتلال وأعوانه، وما شهدته من تغيرات جوهرية على ساحتها الميدانية بالضفة الغربية، لكن الجولة الأخيرة من الهجمات أعادت جنين من جديد لصدارة الأحداث، مع أن حجم الضغط الأمني والعسكري زاد كثيرا على قوى المقاومة، ولا سيما عبر الاعتقالات والاغتيالات لعدد من الكوادر.
يحتار الاحتلال بإطلاق الأوصاف على جنين ومخيمها، تارة "عش الدبابير"، وأخرى "مفرخة الاستشهاديين"، وثالثة "عاصمة العمليات"، في ضوء ما قدمته من نماذج هزمت النظرية العسكرية الإسرائيلية، عبر المواجهات التي خاضتها المقاومة في جنين ضد الاحتلال بين حين وآخر.
ليس سراً أن مخيم جنين قدم نموذجا نسف نظرية الاحتلال العسكرية، ويعيد تثبيت فكرة التجمع الذي لا يقتحم، على غرار بيروت وستاليننغراد، وقدم أقصى ما يمكن أن تقدمه منطقة مغلقة، صحيح أنه نموذج مصغر، لكنه محبط لنظرية الحرب الإسرائيلية.
يمكن القول إن جنين دخلت التاريخ العسكري المعاصر من باب واسع، وباتت مجالا للدراسة العسكرية، لا من زاوية أهميتها الفلسطينية فقط، بسبب الإمكان المتفجر الذي طرحته، صحيح أن الاحتلال "سحق" المخيم في نهاية الأمر قبل عشرين عاما بعد معركة شرسة، لكنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن أوصل المخيم رسالته بأن "ستاليننغراد" قد تتكرر في القرن الحادي والعشرين، بدليل ما شهدته جنين في الساعات والأسابيع الأخيرة.
يمكن للمراقب للأحداث أن يضع في الاعتبار، ولو بنسبة بسيطة، أن التقارير الإسرائيلية التهويلية، لها خلفية أمنية استخبارية، تهيئ الرأي العام لمزاعم تفيد بأن جنين تحولت إلى "عش دبابير"، وأن قواها تتحضر لشن مزيد من الهجمات المتقدمة كماً ونوعاً، ما سيبرر للاحتلال الانقضاض عليها.
ورغم الاعتقالات الواسعة وسقوط الشهداء من كوادر المقاومة وقادتها في جنين، لكنها لم تخلُ من محاولات تشكيل الخلايا العسكرية للاستمرار في المقاومة، ورغم أن الكثيرين اعتقلوا في أثناء الإعداد لهذه الخلايا بفعل المتابعة والملاحقة، وقلة أماكن التدريب، لكنه يدل على وجود إمكانية للاستمرار في تشكيل الخلايا.
هذه العمليات جعلت جنرالات الاحتلال يصلون لقناعة مفادها أنه غير ممكن في هذه الحالة الهروب من استنتاج مفاده أن الروح القتالية لدى الفلسطينيين في جنين لا تخبو، وهم مستعدون لدفع الثمن المترتب على مقاومتهم للاحتلال.