تكاد حالة المقاومة المتفاعلة في القدس والضفة الغربية، هذه الأيام، تشابه نظيرتها التي نشأت قُبيل انتفاضة السكاكين أو (هبة القدس) أواخر عام 2015، رغم أن باكورة تلك الانتفاضة كانت عملية مقاومة مسلّحة نفذتها خلية تابعة لحركة حماس من نابلس، قرب مستوطنة إيتمار، وقُتل فيها مستوطنان صهيونيان، غير أن واقع الضفة الغربية المكشوف أمنياً والذي لا يتيح للخلايا أن تعمل وقتاً طويلاً قبل انكشافها، هذا الواقع أفرز لاحقاً ذلك النمط الفردي من المواجهة، رغم أن كثيراً من العناصر التي نفّذت العمليات بدوافع فردية يمكن عدّها على فصائل مقاومة من ناحية التأييد، والتعبئة، وخصوصاً بعد أن صنعت حرب العصف المأكول في غزة عام 2014 طاقة معنوية هائلة، ساهمت في تحشيد قطاع كبير من الجمهور الفلسطيني خلف منهج المقاومة.
اليوم، تتفاعل حالة شبيهة من المواجهة، تتقاطع مع سابقتها في تأثرها بإضاءات جبهة غزة على واقع الضفة، بعد معركة سيف القدس، وأحداث حي الشيخ جراح في أيار الماضي، لكنها تتميّز بأنها أقل عشوائية من سابقتها، وبإيقاع عملياتها الفردية خسائر -وإن كانت طفيفة- في صفوف الاحتلال، بل إن بعض أعمال المقاومة الشعبية كالرشق بالحجارة والزجاجات الحارقة باتت توقع إصابات، وخاصة تلك التي تستهدف سيارات وحافلات المستوطنين على الطرق الالتفافية في شوارع الضفة الغربية.
أما على صعيد العمل المسلح المنظم، أي الذي ينتسب فاعلوه لتنظيمات فلسطينية، فواقعه حتى الآن المشاغلة، وعدم الإثخان، ويتمثل في إطلاق النار على قوات الاحتلال خلال اقتحامها المدن والبلدات لتنفيذ حملات الاعتقال، وخاصة في شمال الضفة الغربية، في مناطق جنين ونابلس، غير أن هذا النمط يبدو مزعجاً للاحتلال ومرهقاً لعناصر جيشه، الذي اعتاد تنفيذ حملاته وسط أجواء من السكون والهدوء الميداني، ولذلك نراه يبادر إلى معاجلة هذه الظاهرة بإجراءات جراحية قاسية كالاغتيالات في صفوف المسلحين، بهدف إيقاع ردع نفسي في أوساطهم، ومنع تطور ظاهرة السلاح المقاوم، والحدّ من تشكيل الخلايا القادرة على إيلام الاحتلال وإيقاع خسائر في صفوفه.
لكنّ اللافت في الأمر، وعلى نطاق كل من العمل الفردي والمسلح -على محدوديته- حتى الآن، أن الخلفية التعبوية لعناصر الحالتين مستمدة من جبهة المقاومة في غزة، ولعلّ حسابات مواقع التواصل الخاصة للشهداء تؤكد ذلك، فجلّهم يتخذ المقاومة في غزة قدوة وقِبلة للتأسّي، إلى درجة أن رمزية (محمد الضيف) تجلت بوضوح في وعيهم، بغض النظر عن مشاربهم الفكرية الأساسية، أو لون نطاقهم التنظيمي.
المعنى أننا بتنا أمام حالة أكثر تمايزاً من كل المراحل السابقة على صعيد المناهج، فبينما يبدو مسار التسوية والتنسيق الأمني معزولاً بنهجه ورموزه وليس فيه أو فيهم ما يغري بالتأييد، يترسخ مسار المقاومة، منهجاً ورموزا، بوصفه مرجعية أساسية لكل مُقدِم على العمل المقاوم، وكلّ فاعل في هذا المجال، فلم تعد الحالة الفلسطينية مسمّيات تنظيمية، بل منهجين متمايزين مفترقين، تنبثق تفاعلات المواجهة عن واحد منهما فقط هو منهج المقاومة، بكل رمزياتها وأبعادها، وحقائق جوهرها.
يمكن أن نرى في هذه الحالة تقدماً واختلافاً عما سبق من مراحل، فما عاد اليوم ثمة مجال للتداخل والضبابية والانتقائية في الموقف الوطني، والأدوار المنبثقة عنه، فكل عنصر منتظم في عمل مقاوم للاحتلال يستند وجدانياً إلى فكرة المقاومة بعمومها، وإلى رمزياتها الواضحة، وعناوينها الحقيقية، ويجافي أدعياءها ومحاربيها والمفترقين عنها، بنهجهم وسلوكهم.
وهذه سمة يمكن أن ينبني عليها تفاعلات عملية واسعة، واندماج أكبر في مواجهة المحتل، ومزيد من الجاهزية للتضحية، لدى الجيل الشاب، الباحث عن دوره وواجبه الفردي، والقادر على رصد أثر الحالة المقاومة العامة في نفسه وفكره وسلوكه، وعلى استلهام ما يحتاجه منها، ليترجم حالته الشعورية والتعبوية إلى فعل على الأرض، كما فعل أمس شهيد عملية باب الأسباط كريم القواسمي، وقد كان قبل أقل من عام (خلال معركة سيف القدس) يمجّد عبر حسابه على موقع فيسبوك فعل رجال القسام في غزة، ويفتخر بوفائهم بوعدهم.