قد يبدو أن الحرب الروسية الأوكرانية للوهلة الأولى حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل. قد نكون في أحسن أحوالنا كالجمهور المنقسم بين فريقي كرة القدم ريال مدريد وبرشلونة. والحقيقة أن لا مصلحة لنا في هذه الحرب سواء كانت حربا بين فريقين أم كانت حرب تقاطب قوة جديدة تتفرد فيها أمريكا بقيادة العالم.
لا يمكن قراءة ما يجري دون المراجعة الحقيقية للماضي الذي ترتب على أساسه حكم العالم كما نعيشه اليوم.
ولكن المشكلة تبقى عند استحضار الماضي إلى الحاضر بوقائعه المشابهة بطريقة ما، إن من كان يدير لعبة الأمم ويتشارك فيها في الماضي لا يشبه من يديرها اليوم لا من قريب أو بعيد.
عندما تحول العالم وتقسم بين قوى التحالف الغالبة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وما تلاها، كانت الدول تدار من شخصيات قوية، جادة، قادرة، متطلعة. كان سباق تلك القوى بنشر فكر أو أيديولوجية تستطيع أن تحكم وتدير العالم، وتقتل وتبيد بدهاء وإجرام، إمّا يرفعها وإما يزيلها من التاريخ.
يبدو أن حرب اليوم تدار بطريقة الحروب السابقة مع فارق أساسي أن أمريكا ويلسون وروزفلت ليست أمريكا بايدن. وروسيا لينين وستالين ليست روسيا بوتين.
أمريكا تحتاج إلى رئيس أكثر وعيا وإدراكا وحنكة وفهما لما يدور في فلكه. وروسيا تحتاج إلى سفاح قاتل مستعد للإبادة بلا هوادة من أجل بقائه.
طبعا، بايدن ليس مغيبا تماما غير مدرك، وبوتين ليس بريئا أو مسالما. فكما بايدن يستعيد أمجاد قوته بروزفلت، يبدو أن بوتين يحاول استعادة أمجاد قوته بستالين.
الحرب العالمية الثانية أخرجت أكبر قوتين استخدمتا الفتك والقتل والإبادات التطهيرية التي قرر العالم حينها أن التخلص من الشيطان الأكبر هتلر هو الهدف الأسمى. ستالينغراد (١٩٤٣) بضحاياها التي اجتازت أرقامها المليون وضعت روسيا على رأس حربة القوة، وهيروشيما ونغازاكي (١٩٤٥) جعلت من أمريكا أكبر قوة في العالم، على الرغم من إبادة ثلث السكان لتخلف مئات الآلاف من الضحايا وتشويه الجينات الخلقية في المدينتين حتى يومنا هذا. لم يكن إلقاء القنبلتين الذريتين مبررا حتى في أعقد حالات الحاجة بالحروب. كانت الحرب قد انتهت تقريبا وحسمت المكاسب والخسائر لمن انتصر ومن خسر، ولكن أرادت أمريكا أن تلقن اليابان درسا بسبب بيرل هاربر قبل سنوات (١٩٤١).
ومن بعدها صارت تقاس قوة ستالين بعدد ضحاياه. لم يكن بالإمكان عدهم، فقرر التاريخ إجمال ضحاياه بما يزيد على المليون قتيل عن كل سنة من سنوات حكمه الـ ٢٦. الصين شكلت كذلك جزءاً مهماً من هذه المعادلة، فكان يحكمها ماو تسي تونغ الذي حكم الصين بالنار والحديد.
يعني أن العالم الجديد قوي بمن قتل وأجرم ببشاعة أكثر. وبعد الحرب الباردة التي شغلت العالم بين القوتين العظميين على مدار عقود بعد الحرب العالمية الثانية، تتحقق مقولة جورج أورويل سنة ١٩٤٥ عندما كتب: ”انظر إلى العالم بأسره، الانجراف لعدة عقود ليس من أجل الفوضى، بل لإعادة العبودية.”
فالرأسمالية كما الشيوعية لم تكن أهدافها إلا العبودية. إحداها استخدمت الديمقراطية والأخرى استخدمت الاشتراكية للاستقطاب والتحكم.
روزافلت حصل على جائزة نوبل للسلام، ولينين الرفيق الذي نشر الفوضى لإنهاء فساد القيصرية ليعم استبداد الشيوعية، وماو القائد الأب، وستالين الرجل الفولاذي الذي جعل الروس يُذوّبون الفولاذ لدعم صناعة السلاح، ليموت الشعب ويبقى القائد.
والعالم في تجاذبات نحو مصالحه من حيث الدول. فمن اقترب من أي قطب يصبح أقرب للعظمة أو للسخط. كلٌّ يلعب في لعبة الأمم على حسب حجمه ومقدرته وتأثيره.
ربما تلوح بالأفق البعيد لأوروبا فرصة لاستعادة قوتها من خلال أمريكا بطريقة إمبريالية جعلت العالم الإمبريالي ينقسم إلى عالم أول وعالم ثانٍ، نزلت فيه روسيا مرتبة بتبنيها للشيوعية المتهالكة.
العالم ينقسم اليوم بين عالم متهالك وعالم مندثر.
العالم المتهالك يتمثل بما نراه من تحالفات ضد روسيا في محاولة قد تصيب لضرب قوة الصين. فبقدر ما تبدو الأحجام مختلفة بقوتها ومكانتها وحجمها إلا أنها تشكل أهمية في الصراع الحقيقي بحرب باردة بين أمريكا والصين لم تنته بانهيار الاتحاد السوفييتي. وكما دخلت روسيا الحرب العالمية الأولى بحجة التدخل لحماية –محميتها- صربيا بعد اغتيال ولي عهد النمسا على يد طالب صربي، وإعلان الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب على صربيا. تدخل أمريكا وأتباعها اليوم الحرب لمساندة أوكرانيا –محميتها- من الامتداد والخطر الروسي.
تتكشف التحالفات وتسقط كل الأقنعة في مثل هذه الحروب الوشيكة. يخرج الجميع من اللعبة ويبقى الأقوياء. في هذه الحرب تبدو (إسرائيل) وكأنها اللاعب الذي قد يصبح مركزيا في لعبة الأمم. مثلما كانت عرابتها أمريكا قبل الحرب العالمية الأولى.
يقال، إن السياسية هي فن الممكن. وهذا ما تستطيع أن تتقنه (إسرائيل) بلعبة الأمم.
فكما نرى اليوم أمامنا كيف تصاغ الحريات وتفسر الديمقراطيات ويتم خوض الحروب من أجل الإنسانية. يبدو لنا جليا أن حقوق الإنسان هي الحقوق التي تقررها القوى المهيمنة. الحق والباطل يقرر مسبقا ويتم حسمه إعلاميا وبكل الطرق حتى يدخل إلى عقولنا ويقنعنا عنوة، أن لا حق غير الحق الذي تقرره القوة الكاسبة المهيمنة على مجرى الكون.
فلا يهم ما اقترفته هذه القوى وتقترفه. فبعد عقود من التجيير والاستقطاب مع أو ضد محاور الخير أو الشر التي تقرره لنا أمريكا، تقف (إسرائيل) كمن يقف على حبل رفيع يحسم وصولها إلى نهاية الطريق. إن وقعت قد تخسر، وإن وصلت ستكسب الكثير. كما حدث من جعل جريمة النازية بحق اليهود، والأتراك بحق الأرمن أكثر فظاعة وأهمية في عقولنا حتى يومنا هذا من فظاعة الجرائم التي ارتكبت في تلك المناطق من ذلك التاريخ وخلفت عشرات الملايين من الضحايا.
كما يحدث في السنوات الأخيرة أمام أعيننا، فضحايا اليمن وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا لم تعد ترقى حتى للذكر.
ونحن هنا، شعوبا عربية وقيادات ننظر وننتظر. نصوت لأحد الأطراف ونهز سياطنا نحو أحد الأطراف. لا تأثير لنا ولا أهمية. فلقد عبر عنا التاريخ وتعفرت بنا حوافر الزمن فصار وجودنا عدما.
وعلى الرغم من أن في هذه الحرب التي تدور دوائرها على الطغاة وتطحنهم وتبدد حلفاءهم أو تقربهم، يبقى وجود (إسرائيل) كلاعب مركزي على الرغم من عدم وجود علاقة مباشرة لها بهذه الحرب. إلا أن العلاقة الداعمة لطرفي الحرب لإسرائيل هي المعضلة. فروسيا علاقتها بإسرائيل علاقة أب بابنه من زواج عرفي، وعلاقة أوكرانيا بإسرائيل كعلاقة هذا الابن من الزواج العرفي بأمه.
تقدمت التكنولوجيا وتطورت أدوات الحرب منذ التهديد بكبس الزر الذي قد ينهي العالم ويزيله. ولأننا لسنا إلا هباء منثورا في عدمية وجودنا بهذا الكون لا نفهم من هذا السباق الفتاك إلا بما يسمح لنا بالاصطفاف هنا أو هناك ورمي النكات أحيانا والتنبؤات أحيانا. وبين تنبؤات رقمية بنهاية (إسرائيل) والتهليل لها، وضرب صاروخ نووي عليها أو ما قدر لهذه الأسلحة ضربه، فالخطر المحدق بإسرائيل بالتأكيد محدق بنا. ففناء (إسرائيل) بهذه الطريقة يعني فناءنا. ولكن خروج (إسرائيل) منتصرة يعني خروجها هي فقط منتصرة، ويعني فناءنا المستمر كذلك.
وكما في وضعنا عند مشاهدة مباريات كرة القدم بين المحترفين، الانتصار لبرشلونة أو لريال مدريد. أجد نفسي أتابع ما يحدث بالتصفيق للفريق الغالب. فلا أثر لنا في هذه المباريات والحروب ولا تأثير. نصفق، نطبل، نهلل منتصرين لانتصارات لا تعنينا. ونبكي، نتباكى، نلطم، ونشجب انتكاسات لا تعنينا. والأهم.. أن اصطفافنا بين تأييد وتنديد لا يعني أحدًا.
العالم الجديد يتشكل بالفعل، ولكننا لسنا جزءًا منه.
فمهما حدث، بينما ترفع (إسرائيل) شعارات إنهاء الاحتلال الروسي على أوكرانيا، ستستمر في احتلالها ومخططها الاستيطاني ونهجها العرقي بالتخلص من أكبر عدد ممكن من هذا الشعب بين قتل وهدم واعتقال وتنكيل، وتطويع ما تبقى منه لخدمتها. تتمدد السلطة بفسادها لندخل مرحلة جديدة بإعادة افتتاح كازينو أريحا بإدارة ابن الرئيس مع شريك إسرائيلي، ونعد العدة لمحاسبة جمعية في بيت لحم بسبب صورة جمعت أعضاء الجمعية مع مجموعة من الألمان ومستوطن متطرف –جليك- في زيارة لها.
وإذا ما انتهت الحرب لمصلحة روسيا، ستستمر كذلك (إسرائيل) بنفس النهج. فهذا العالم البقاء فيه للقوي الأصلح. القوة هي الحق، والسطوة هي قانون الصلاح. ونحن سننتظر لعل الدوائر تدور على بغي (إسرائيل) ذات يوم. ونحن مجرد غبار تعفّره رحى طواحين المعارك.