قد يعتقد البعض أن عنونة المقال بهذه الصيغة، كلام فيه الكثير من المبالغة أو التنظير والتشاؤم، ولكن أي تحليل سياسي يتسم بالضرورة وبالموضوعية ويستقرئ الواقع، يسبر أغواره استناداً إلى الوقائع العنيدة الماثلة أمامنا منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لكنس الاحتلال العنصري الاستيطاني عن كل التراب الوطني الفلسطيني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة من النهر إلى البحر ومن الناقورة إلى أم الرشراش وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وحتى لحظة إعلان عباس إلحاق المنظمة كدائرة في سلطته ودولته الوهمية التي يتحدث قادة العدو جميعهم بأنها لن تتحقق منذ ديفيد بن غوريون رئيس وزراء دولة العدو المؤسس، مروراً بغولدمائير وبنيامين نتنياهو وحتى اليوم مع نفتالي بينيت.
وجرت في النهر مياه كثيرة، وتشكلت منظمة التحرير بقرار عربي بعيداً عن دور مباشر للشعب الفلسطيني أو فصائله المقاومة، وتم بناء هيئات المنظمة بالتوافق مرة وبالتعيين في جُل الحالات وكان مبدأ الشراكة أو الانتخابات نادراً دوماً.
وقد ثار تساؤل لا يزال حاضراً دون إجابة قاطعة حتى اليوم: هل يُمثل المجلس الوطني مرجعية عليا يُعتدّ بها للشعب الفلسطيني، بكل ما في نسيجه من مواطنين مستقلين، ومن تنظيمات وفصائل حتى لو لم تكن جزءاً من منظمة التحرير، مثل حركتي المقاومة الإسلامية "حماس" والجهاد الإسلامي، وكل الفصائل الأخرى وهي كثيرة ولها وزنها وفعلها الميداني الجماهيري المقاوم والذي تؤكد انتخابات 25 كانون الثاني للعام 2006 أنها تشكل الأغلبية الفعلية والتي لا يُنكرها غير الأحمق!
وحتى لو كان الوصف الرسمي للنظام العربي للمنظمة -كما جاء في قمتي الرباط والدار البيضاء عام 1973 و1974- هو "أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني."
وحين نتتبع بعض الوقائع، لا بد من المرور بدورة المجلس الوطني في القاهرة عام 1968 برئاسة السيد عبدالمحسن قطان وقد كانت فتح ومنذ ذاك التاريخ قد بسطت سيطرتها الكاملة على المنظمة بإغراقها بطيف واسع من أعضائها في كل الساحات الذين استطاعوا بالتصويت من إنجاح الناطق الرسمي باسم "فتح" ياسر عرفات الذي رشح نفسه رئيساً للجنة التنفيذية، وقد قدم أحمد الشقيري استقالته "بينما أضحت بيئة العمل داخل المنظمة" -كما قال- غير قابلة لاستمراره فيها! وقد اختُير في حينه يحيى حمودة، ومن ثم خالد الفاهوم لرئاسة المجلس الوطني وقد استمر الفاهوم يشغل هذا المنصب حتى عام 1984.
وهنا بدأ التغيير عميقاً في فكر وبرنامج منظمة التحرير وتحديداً منذ دورتي 1972 و1973 حين تحقق النكوص فيما يتعلق بحلم الدولة، والأهداف التي قامت المنظمة من أجل تحقيقها، ليس فقط بالتحرير الكامل بل وعدم الاعتراف بحدود التقسيم أو الاعتراف بالعدو وأن ذلك جريمة وخيانة وطنية.
ويتوالى التراجع فتبددت الدولة الفلسطينية بـ "الدولة الديمقراطية العلمانية" لجميع قاطنيها!
وانحدرت إلى "إقامة السلطة الوطنية المستقلة والمقاتلة" على أي جزء يمكن تحريره وحتى لا يكون الانهيار واضحاً أو فادحاً، أو حتى فاضحاً، فقد تم تغليفه بغلالة من ذر الرماد في العيون، فقالوا: يجب أن لا يكون ثمن هذا الكيان هو "السلطة" : "هو الاعتراف بالعدو، أو عقد صلح معه، أو تنازل عن العودة وحق تقرير المصير!!"
لقد دفعت الأهداف الفعلية لهذه السياسة إلى اللهاث هروباً إلى الأمام وقد أوشك انفراط عقد "السِبحة" على النفاذ ليبدأ الوهن يدب بقادة الأمس المتنفذين في قيادة منظمة التحرير فيتسارع نحو محطة "النقاط العشر" و"البرنامج المرحلي" عام 1974 والذي تلا الترحيب بالقمة العربية في الرباط في نفس العام تلك التي حَسمت التنازع على تمثيل الشعب الفلسطيني بين الأردن ومنظمة التحرير حين اعترف العرب بالمنظمة بصفتها الممثل الشرعي الوحيد، وهذا قاد الى اعتراف دولي أيضاً في تشرين الثاني عام 1974 حين دُعي عرفات لإلقاء خطابه الشهير من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك والذي ثَبَت أن له وجه آخر مغاير تماماً لآمال الملايين بالتحرير والعودة بل كان بداية تطبيع وتطويع المنظمة لإدارة الكبار الدوليين وميزان القوى العالمي، أولئك الذين أقاموا دولة العدو وساندوها بكل ما أوتوا من قوة حتى اليوم.
كما كان لافتا أيضاً المصطلحات التي بدأت منظمة التحرير في استخدامها مثل: "تعزيز التضامن العربي" بديلاً عن الوحدة العربية، عنوانا للتدجين تحت سقف النظام العربي الرسمي ليُصبح سيد الموقف.
ومنذ دورة المجلس الوطني للعام 1983 التي عقدت في الجزائر، بدأ النشاط الملحوظ يدب في اللجنة التنفيذية للمنظمة التي تسيطر عليها حركة فتح برئاسة ياسر عرفات الذي كان يعمل دون كلل لتوجيه قرارات المنظمة نحو الأهداف التي يريدها والتي أحدثت العديد من الصراعات والانشقاقات بقبول "مشروع فاس"، باعتباره الحد الأدنى لمقترحات تجمع بين ما تريده الدول العربية وما جرى التفاوض بشأنه بين الملك الأردني حسين وياسر عرفات المُتصل "بالكونفدرالية الأردنية الفلسطينية"، والذي كان مدخلاً مذلاً وعارياً لبدء الاعتراف والتطبيع لوهم "السلام بين الدول العربية ودولة العدو!"
هنا، بدأت الخطوات الدرامية للسقوط نحو الهاوية، وما تلاه من تنازلات فادحة أطاحت بالثوابت أو تكاد.
وقد تُرجم هذا الجنوح بدورة عام 1985 للمجلس الوطني في عمان التي رحبت بالاتفاق الثنائي الأردني الفلسطيني الذي نَصَّ في أهم بنوده على قبول مبدأ " الأرض مقابل السلام" فما عادت الأرض ولا تحقق السلام منذ 37 عاماً ولم يزل الاستيطان يتسارع في نهب الأرض وتهويد القدس، في الوقت الذي تقدم في سلطة عباس خدماتها لنصرة الاحتلال والتقاسم الوظيفي معه لإنهاء المقاومة ومحاربتها وتنتهي معها ثوابت الشعب كما يتوهمون.
المنظمة توافق على "عقد مؤتمر دولي للسلام تحضره كل الأطراف؟!"، بل بدأت المنظمة تتحدث دون خجل أو وجل عن "نبذ الإرهاب"، بل ويتكرر ذلك فيختلط الحابل بالنابل ليصبح نبذ الإرهاب يعني وقف المقاومة أو الكفاح المسلح بل ومواجهته كما يرى القاصي والداني، واغتيال العديد من رجال الكلمة الحرة والتآمر على المقاومة بقتلهم أو تسليمهم للعدو وتسهيل وصول قوات الاحتلال لهم والوقائع في ذلك لا تُحصى.
هذه السياقات أنتجت دورة المجلس الوطني عام 1988، التي أُعلنت في كرنفال دولة وهمية على الورق، في الوقت الذي تصاعدت فيه هجمات جيش العدو الدموية فاغتالت القائد خليل الوزير، وترافقت مع الإعدامات الميدانية وتكسير العظام لأطفال وفرسان الانتفاضة الشعبية الكبرى التي انطلقت قبل ذلك بعام، وقد تزامن ذلك مع دعوة عرفات من على منبر الإتحاد الأوروبي كيان الاحتلال النازي إلى عقد "سلام الشجعان" وأي شجعان هؤلاء ونحن نتابع اغتيال الأهداف السياسية للانتفاضة التي قام الشعب بإشعالها من أجل حريته واستقلاله، والذهاب هرولة لصك إذعان أوسلوا عام 1993 الذي مهد لتكريس الاعتراف الرسمي للمنظمة بدولة العدو على 78.4% مع تبادل للأراضي وشطب القدس من الخارطة الوطنية ومعها قضية اللاجئين التي تأسست منظمة التحرير من أجل إعادتهم إلى ديارهم، صك يُجَرّم المقاومة، ويلحق المنظمة بسلطة تابعة للعدو في كل أدائها الميداني واليوم يُلحقها محمود عباس كدائرة في سلطته المتخابرة فيطعن ظهيرة يوم صيفي قائظ ثوابت الشعب وحقوقه المشروعة في الظَهر، وهذا يقتضي التحرك الفوري من كل القوى المقاومة الحية لإعادة بناء منظمة التحرير من كل القوى واعتماد الشراكة والتوافق وبالانتخابات الحرة الديمقراطية لحصار هذا الطاغوت المتآمر وعَزل وحصار هذا النهج التآمري المدمر ومحاكمته وإسقاطه مرة وإلى الأبد.