بعد أكثر من شهر على اعتصامهم داخل حرم جامعة بيرزيت، تمكَّن فرسان الحركة الطلابية بمختلف مكوِّناتها من تحقيق إنجاز مهم، ويكاد يكون غير مسبوق على صعيد إنجازات الحركة الطلابية في الجامعات الفلسطينية خلال السنوات الأخيرة، تمثّل في إقالة عنان الأتيرة، عميدة شؤون الطلبة في الجامعة، وهي التي كانت قد تولّت المنصب قبل عدة أشهر، ومنذ ذلك الوقت والجامعة مسرح لمشكلات عديدة ناجمة عن تعطيل عمادة شؤون الطلبة عددًا من الأنشطة الوطنية والنقابية لطلاب الجامعة.
الأزمة في خلفيتها وفي عمقها لم تكن بين طلبة الجامعة وإدارتها، إنما بين المكوّنات الوطنية للحركة الطلابية من جهة، والسلطة والأجهزة الأمنية من جهة أخرى، وهذه الأخيرة كانت تراهن على أن يكون تعيين الأتيرة عميدة لشؤون الطلبة مقدّمة لتخريب أجواء جامعة بيرزيت، وتقييد حرية العمل النقابي والوطني لطلابها، وتحويلها إلى نسخة عن بقية الجامعات في الضفة الغربية، حيث نجحت حركة فتح والأجهزة الأمنية في تطويعها، وتحويلها إلى مزارع أمنية، ينشط فيها مناديب السلطة ويلاحقون الطلبة علنًا ويتدخلون للتضييق عليهم ولمنع نشاطهم، بعد إخضاع إدارات الجامعات وإلزامها تمرير توصيات الأجهزة الأمنية بمنع النشاط النقابي الحرّ، باستثناء ذاك الممثل للشبيبة الطلابية التابعة لحركة فتح.
الفائدة التي تجنيها الأجهزة الأمنية من تغييب الدور الوطني للجامعات ومن محاصرة النشاط النقابي فيها لا يقتصر على قضية استمرار هيمنتها وإحكام سيطرتها على كل مفاصل المجتمع الفلسطيني، ولا فقط على إبقاء الأجيال الشابة ضحية هواجس القمع وتكميم الأفواه وإشغالهم بتوافه الأمور، إنما يتجاوز كلّ هذا إلى هدف قتل تلك الصلة التاريخية بين حيوية النشاط الجامعي وانعكاسه إيجابًا على حالة التعافي الوطني العام وآفاق مواجهة الاحتلال، ذلك أن الجامعات كانت محاضن الفكر المقاوم، والعنفوان الوطني، ومتى توفّر التعافي والنشاط والحرية داخل البيئة الجامعية انعكس ذلك على الميدان؛ على النهوض به وقيادته، وعلى إبقاء جذوة النشاط الوطني فيه، وعلى إذكاء روح المواجهة، ورفد المسار المقاوم بالزاد البشري المتميّز.
إدراك الاحتلال لهذه القضية جعله بدوره يركّز جهوده على محاربة النشاط النقابي داخل الجامعات، وعلى جعل الكوادر النشيطة للكتل الطلابية التابعة لفصائل المقاومة، وعلى رأسها الكتلة الإسلامية التابعة لحماس، هدفًا لملاحقاته واعتقالاته، وصولًا إلى تنفيذ اقتحامات عديدة للجامعات، وخصوصًا جامعة بيرزيت، قبيل المناسبات الوطنية المختلفة كانطلاقات الفصائل، وبالتزامن مع انعقاد الانتخابات السنوية فيها لانتخاب مجلس الطلبة، وذلك ضمن سياسته المعروفة بـ(جزّ العشب) والهادفة لاستنزاف الجامعات أولًا بأول، وقبل أن تتحول براعم النشاط فيها إلى المسار المقاوم، وبطبيعة الحال فقد كان دور الاحتلال في هذا الجانب يمضي بالتزامن والتكامل مع سياسات السلطة في ملاحقة النشاط الطلابي، لأجل الغايات ذاتها.
هذه السياسات تحطمت بشكل مريع مؤخرًا على صخرة صمود الحركة الطلابية في جامعة بيرزيت، هذا الصمود الذي راهن كثيرون على حتمية نفاده، وعلى فشل الطلبة في تحقيق إنجازهم بانتزاع مطالبهم، وهي المطالب التي أرادوا من خلالها إيصال رسالة في مختلف الاتجاهات، تصل إلى آذان السلطة والاحتلال أيضًا، مفادها بأن كسر معادلة بيرزيت لن يكون سهلًا ولا ممكنًا، في ظل تماسك وجسارة حركتها الطلابية، والتفاف معظم طلاب الجامعة حولها، وفي ظلِّ إدراك الطلبة لمكامن قوّتهم وحسن توظيفها، لتكون سدًا عاليًا أمام محالات التدجين والتطويع والإخضاع التي تتهدد جامعة بيرزيت، بمجالات الحرية فيها، وبكونها منبرًا وطنيًا متميزًا، ظلّ عالي الصوت ومتحررًا من إكراهات القمع ومتعاليًا عليها، حتى في أحلك الظروف وأصعبها.
درس الإرادة الذي سطّره طلاب الجامعة مؤخرًا يقول أشياء كثيرة، حول جدوى الصمود أمام الطوفان، والممانعة في وجه التهديد، وكسر القيد قبل أن يحكم إغلاقه على المعاصم الأبية، وحول القدرة على أن يصبح صاحب الرسالة والقضية رقمًا صعبًا حتى وهو يسبح ضد التيار في وسط محارب لفكرته، إذا كان متمسكًا بهدفه ويمده بنفَس طويل وثابت، لا يستعجل النتائج، أو يقبل بحلول مبتورة.
في جامعة بيرزيت انتصرت الإرادة على الخور والخوف والخضوع، وتمدّد النفَس الوطني الحرّ والأبيّ لفرسان كتلها الطلابية حتى استغرق عموم الطلبة، فوصلت رسالتهم كاملة وواضحة وقوية إلى كل من يعنيهم الأمر، وكل من عليهم أن يستلهموا من هذه التجربة دروسًا لكي يهزموا القمع في ساحاتهم ومجالاتهم، ويوقفوا التغوّل على حقوقهم فيها، وصولًا إلى تحصيلها كاملة غير منقوصة ولا مشوّهة.