أملأ رئتي بهواء مدينتي.. أستحضر حجم السعادة التي تحيط بي من كل جانب. يا إلهي.. إنني حرة.. هل هناك سعادة تشبه الحرية؟ لا قيود تأكل معصمي، ولا قضبان تخنقني، ولا أسوار عالية تحجب أشعة الشمس وضوء النهار.. أركض نحو شرفة البيت.. ألمس الأزهار، أستنشق عبيرها، أُمتع نظري بجمالها، أُطلق لنظري العنان عبر النافذة.. ألمح في الأفق البعيد سربًا من الطيور المهاجرة، تكاد تلامس الغيوم الشاحبة التي تجمعت قبل الزوال لغاية ما. ياه.. خلف أسوار السجن تغيب تفاصيل هذه الحياة.. بمقدورها فقط أن تحضر في مخيلة الأسير، وما أخصب خيال المحتجزين خلف القضبان!
كنت أدرس في جامعة بير زيت تخصص علم نفس، وتراودني فكرة أن دوري لا ينحصر في الدراسة فقط، اندفعت إلى العمل الطلابي والانتساب للحركة الطلابية، في السنة الثالثة أصبحت سكرتيرة لجنة العلاقات العامة في مجلس الطلبة، وقبل الاعتقال عملت منسقة أعمال مؤتمر الطلبة لدورة 2019-2020، كنت ممثلة الطلبة أمام الإدارة والعمادة، نحن الجسم المنتخب الذي يمثل الطلبة وتعترف به الجامعة.. قُدت نشاطات كثيرة للفئات المهمشة: أيتام، ومسنين ممن يحتاجون إلى الحنان واللطف والإنسانية.
أَعملت فكري للخروج بأفكار غير مألوفة لعلي أترك بصمة في الجامعة.. وما لم أتوقعه نهائيًّا هو أن أتعرض للاعتقال بسبب تلك النشاطات النقابية والإنسانية!
حضروا إلى البيت قبل الفجر.. طرقوا الباب بعنف مريع.. ظننا أنهم جاؤوا لاعتقال والدي، ونحن معتادون ذلك.. ولكن ما سبب لي صدمة جعلت جسدي يهتز ويرتجف بلا هوادة أنهم قالوا لوالدي: دع شذى تجهز نفسها.. هي رهن الاعتقال! ارتبكت.. شعرت وكأني أدور في دوامة عنيفة تشتت أركاني. اضطروني لوداع أهلي ثم انتزعوني من بين دفئهم وحنانهم إلى البرد والقسوة والغربة.. ما تزال نظرات أهلي وارتجاف والدي يتراءى لي حتى اللحظة.
وضعوا القيود في يدي، وأدخلوني الجيب العسكري، وأجلسوني أرضًا.. الجو شديد البرودة، فنحن في فجر يوم في منتصف كانون الأول في رام الله. اقتادوني إلى سجن عوفر.. مضت الساعات كئيبة طويلة تدور في ذهني آلاف الأسئلة في أفلاك مضطربة، أفق مظلم مجهول يحيط بي ويرعبني.. لماذا أنا هنا؟ أيكون في الأمر خطأ ما؟ ربما يريدون إخافتي ليس أكثر، وسرعان ما سأعود إلى بيتي!
ستة أيام سوداء
في عوفر، ساعات طويلة سألوني خلالها بإسهاب عن نشاطاتي النقابية، أضحكني جدًا حين قال لي المحقق: مشتبه بقيامك بتنظيم زيارة لدار أيتام.. ادعوا بأنني أهدد أمن دولتهم، أخذوا بصماتي وشيفرتي الوراثية، ثم نقلوني إلى عزل سجن هشارون، الذي قضيت فيه أسوأ أيام حياتي على الإطلاق، أيام ستة سوداء شديدة الظلمة، في زنزانة ضيقة بين زنازين السجناء المدنيين اليهود الذين يظهر الإجرام في ملامحهم المرعبة، أورثتني مشاعر مربكة مشوشة وترقب لا يهدأ: أرق، تفكير دائم، توجس.. تنتشر الرطوبة والعفن على جدران الزنزانة من أعلاها إلى أسفلها، حمامها مفتوح أمام الجميع، وأخشى ما أخشاه أن يفاجئني السجانون بفتح الباب.. أما الطعام فنتن الرائحة تعافه النفس.
نقلوني بالبوسطة، التي لا أحب أن أتذكرها.. وجع، برد، توقف الزمن داخل قفص يتأرج مع توقفها المفاجئ وسرعتها الجنونية أحيانًا وأوقات الانتظار المميتة.
في زنازين انتظار المحكمة في عوفر كانت أوقاتًا شديدة السوء، قرأت على جدران زنزانتي بخط سجين سبقني: احذر ثلاجة الموتى! حاولت طرد الأفكار السوداء..
استمرت المحكمة عشر دقائق.. شاهدت أمي، فصلتني عنها أمتار قليلة منعني الجنود من الاقتراب منها، أحالوني للسجن الإداري، في ملف سري لم يعرف المحامي شيئًا مما فيه.. مهزلة، اتضح فيها الظلم، لا لائحة اتهام.. شعرت بروحي تخرج مع خروج أمي.. انتظرنا حتى أنهى جميع الأسرى محاكمتهم.
في منتصف الليل نقلونا إلى سجن هشارون مرة أخرى.
وبعد أيام نقلوني إلى سجن الدامون.
سيطرت عليّ مشاعر الخوف والقلق، سأبقى شهورًا عدة في هذا السجن، وسألتقي بأسيرات أحفظ أسماءهن وأسمع عنهن.. لست مغيبة عن عالم الأسر، أتابع أخبار الأسرى يوميًّا، ولم أتوقع أن أصبح جزءًا منه يومًا. عالم الأسر أسوأ بكثير مما تتصور.. صدمني حجم المعاناة، وكأن الكلمات قاصرة عن وصف ما يحدث خلف الأسوار.. أمهات أسيرات، قاصرات، جريحات... إلخ.
ندوب عميقة
تأثير تجربة السجن لا يزول، تركت داخلي ندوبًا عميقة.. نجحت في تحويلها إلى تجربة إيجابية تعلمت منها.. ولكني صرت أخاف الطرقات الليلة.. وتتناوبني كوابيس لا تنتهي.. وغدا الليل مرعبًا متوجسًا!
اعتبر تجربتي الاعتقالية متواضعة مقارنة بما قدمه آخرون قضوا فترات طويلة في الأسر وبذلوا أعمارهم رغم أني اكتشفت أن يومًا إضافيًا في الأسر يشكل فارقًا.
دعم أهلي وصديقاتي والجامعة خلال الأسر وبعد التحرير شد من أزري، رسائلهم في الأسر، استقبالهم لي.
شذى قبل الاعتقال لم تعد هي ذاتها بعد الاعتقال.. تعلمت الكثير، اكتشفت ذاتي، تعرفت على أناس من مناطق مختلفة من فلسطين، قرأت كثيرًا.
ما بعد الاعتقال كان صعبًا، الدنيا قفزت للأمام بعيدًا عني. خمسة شهور وعشرة أيام كانت كافية لأشعر بأنني مغيبة عما يجري، جائحة كورونا تسيطر على العالم، وتغير معها كل شيء.. لا يستطيع ذهني نسيان الأسيرات اللائي غادرتهن هناك.. تُعرض صورهن في مخيلتي يعيد تكرار نفسه مثل شريط سينمائي.. لا أستطيع أن أنسى.