في عام 1994، بعد التخرج من جامعة الينوي، حصل اثنان من الطلبة الأجانب في دفعتي على إقامات عمل، تتيح لحامليها العمل كأي أمريكي لمدة عام، وفي حالة رغبة مكان العمل ببقاء حامل الإقامة، يقومون بمنحه الكرت الأخضر، كرت الإقامة الدائمة الذي ينتهي بالحصول على الجنسية عادة، كنت واحدا من هؤلاء الاثنين، وكان ذلك امتيازاً يعطى من دون التقدم بأي طلب، كاستحقاق تلقائي للطلبة الأجانب ذوي التحصيل المتقدم، وكان الاستعمال الوحيد لهذا الكرت من جانبي هو أن أبرزته في مطار جون اف كينيدي عندما عدت لشيكاغو بزيارة قصيرة لحضور مراسم تخرجي، كان ذلك بعد مضي خمسة شهور على مغادرتي المدينة الزاهية متوجهاً للعمل بجامعة النجاح في نابلس، كان سبب هروعي الهستيري للوطن والذي حال بيني وبين انتظاري حتى لمراسم التخرج مستمداً من تسلط مشاعر ما برحت تراودني طوال الفترة التي قضيتها هناك، والتي تصيب حاملها فعلاً بمرض الحنين وتنظم وجدانه وتقيم في ضلوعه وتستولي عليه على نحو استثنائي، تطيح بكل ما ينتجه العقل خلافا لها، وتشيع كيمياء خاصة تحيل أي خلايا تحاول الولوج للخيارات الأخرى، عبر حسابات المنطق والتفكير بلا انحياز، الى الحياد. كان قد مضى على وجودي بشيكاغو سنتان، كانتا كافيتين لأربي - على غير قصد - هذا الشعور المستبد المنحاز الذي لا ينظر الا الى الشرق. لم أكن أرى في المدينة المذرورة بالرياح الآتية من بحيرة ميتشيغان إلا محطة تجميل للمنفى بمعنى ً مجازي ما، وبرغم سحر هذه المدينة الأخاذ وجاذبيتها وتناقضها المثير، والصداقات المبعثرة التي حظيت بها، كان كل ما رأيته هناك من جمال وسهولة حياة وقوة اقتصاد ومستوى حياة مترف، كان قميناً بإشعال وطنيتي بدلاً من إخمادها، وتأجيج مشاعر الحنين لبلد وأناس لا تلبث أن تغادرهما حتى تنشط فيك ذاكرة منحازة باتجاه واحد، ذاكرة تنضح بالذكريات السعيدة وحسب، وتنسيك كل مآسيك وأوجاعك وأسباب خيباتك.
كنت أعجب لنفسي كلما كنت أخلد اليها محاولاً استدعاء العقل، وأسائلني "ترى، أنت تعرف أن الأمور هناك ليست على النحو الذي تدعيه عاطفتك، فما الذي ينسيك جميع الإحباطات التي حدت بك مسافراً على اعتقاد أنك لن تعود؟"، لم يكن الجواب سهلاً بالطبع، وفي حالات الصفاء، أجدني ربما كنت رافضاً لفكرة التخلي عن مشروعي الحياتي الذي تكون هناك، والذي أودعت فيه أجمل توتراتي وأكثرها اتقاداً، وتجاوزت عند مفترقاته الحالكة واختباراته القاسية، وأحياناً كثيرة مطباته المرعبة، كل احتمال بالتحول أو التراجع!
كيف يتحول، وهل يملك ذلك أصلاً، ابن مخيم ، عرف منذ أن وعي على هذه الدنيا، أن له قضية وقد تعاقد معها على ألا يحلم في منطقة هواه؟ من أبناء النكبة وقد استمع لرواية أبيه وأمه وجده وجدته وأقاربه وجيرانه الذين يسكنون في الخيام المجاورة أو في احدى وحدات السكن المؤقتة التي أقامتها وكالة الغوث فيما بعد وصارت مخيمات للاجئين، وهل من فكاك شخصي من القصص المحكية عن النكبة والتهجير والمجازر والتغريبة الفلسطينية التي لو قيلت لحجر لتفطر، وكيف لا تفعل فعلها فيه، وتوسم قلبه وجوارحه وتلافيف حواسه وتسيطر على فكره وحلمه وطريقة حياته وتصيغ صداقاته وعداواته وهواياته ورسالته في الحياة؛ وقد قرر بكل ما أوتي من عقل وإدراك وعواطف إنسانية متقدة، أنه ابن قضية ولا يجوز له تحت أي ظرف أن يتبع أي نزعة أو نزوة تأخذه إلى غير مكان أو غير ضالة، غير تلك التي تعاقد فيها مع أبيه المكلوم، أو أمه التي حرمت دلال النساء، أو جده الذي حطمت عصابات الهاجاناة كل أعماله واحلامه وعزه وسرقت أرضه وتعبه وخيراته ليصبح لاجئا ينتظر دوره مع المئات ليأخذ حصته وحصة أبنائه وأحفاده من صيعان الطحين والأرز والسمن القميء، وكيف ينسى هذا أنه ابن هؤلاء ووريث هؤلاء إذا أراد أن يحتفظ برجولته أو معناه الإنساني!
كنت مغلقاً على معنى واحد يتكبده كل من هو مثلي في حالة الإفلات من هذا العقد، وهو توسل الحل الشخصي الذي يعطى لك مقابل إقناع نفسك أنك لا تتحلل من عقدك في حين أنك تعرف تماماً أنك قد غدوت في منطقة أخرى. المفارقة غير المتوقعة، كانت سنوات السجن والاعتقال العديدة، برغم قسوتها، لكنها أحدثت في شخصيتي علامات أبدية، يبدو أنها ساعدتني على حسم أمري.
أجبت على سؤال العميد باعتدال يعفيني من الإفصاح عن قناعاتي، وقلت " يتعين علي استكمال المساعي هناك في البحث عن تطبيقات لما توصلت إليه في بحثي، ولا أدري كيف ستتطور الأمور".