في مطلع ديسمبر 2000، غادرت مكتب الديكان (العميد) بمعهد الاقتصاد في جامعة ايرلنغن-نورنبيرغ بعد ان سلمته بشكل رسمي أطروحتي حول السياسة النقدية في حالة وجود وعدم وجود عملة وطنية على خلفية مناقشة القاعدة والاستنساب في علم الاقتصاد المالي، وكان قد مضى على وجودي في ألمانيا أربع سنوات وشهران، كنت قد شعرت قبل أن أبرح المكان ببقاء بعض الأسئلة معلقة على فم الرجل، لكنه ليس مريحا أن تغادر مكتبا كهذا في مناسبة كهذه دون استجلاء الوضوح في محياه، ذلك بسبب أن ساعة تسليم الأطروحة لها وقع ورهبة خاصان، يكون الباحث قد استكمل ما بجعبته من أجل إقناع جمهرة الاقتصاديين الألمان بأن ما يقدمه في هذا اليوم جدير باعتباره اسهاما جديدا بعلم الاقتصاد، وقبل هذه اللحظة يكون قد استوفى الإجابة عن جميع الأسئلة التي وضعها اثنان من كبار المشرفين على الأطروحة، وهما أستاذك الرئيسي وأستاذ آخر متخصص، وتزداد رهبة اللحظة عندما تعلم أنها بداية لمرحلة أخرى من مراحل إقرار العمل الذي تسلمه؛ يقوم العميد بالإعلان عن فتح الأطروحة لجميع المهتمين ولأساتذة الجامعات الألمانية لمدة شهرين للمراجعة وإبداء الملاحظات، ولجعل ذلك متاحا تكون أنت قد سلمت ثمانين نسخة عن كتابك الجديد.
ليس مريحا إذًا أن تغادر قبل أن تعرف ما يدور بعقل هذا العميد الذي لا يفصح عن كل شيء!
كان لطيفا ومقتصدا في لغة الجسد، وهذا يزيدك حيرة ويصب على فضولك زيتا آخر تقارب فيه منطقة التوتر.
كيف يمكنني مقاربة هذا اللغز واستنطاقه، وهل ثمة متسع للمناورة مع شخص كهذا؟ كان الأمر سيكون مختلفا مع الأساتذة الأمريكان الذين تعاملت معهم في جامعة إلينوي بشيكاغو قبل عدة أعوام عندما كنت طالبا للماجستير هناك، هناك يتعمد الأساتذة لحد كبير هدم الجدران مع طلبتهم وأحيانا كثيرة مصادقتهم، الألمان مختلفون، وعلى طرف النقيض الآخر.
في بلد كألمانيا، يجب ألا تبالغ باللطف، ولغة العمل تعلو فوق أي لغة أخرى؛ وفي ثقافتهم، يعتبر استبدال لغة العمل بلغة العلاقات الإنسانية ليس محببا، كان تصوري للموقف أن جديتي ورسميتي في المخاطبة يجب أن تعكسا ثقتي بالعمل الذي أقدمه وبقدرتي على اجتياز تحدي الشهرين القاسي الذي بدأ لحظة وجودي في مكتبه، وكان أي خروج عن هذه الرسمية يعني لي تقربا شخصيا في غير مكانه، رجل العلم الواثق لا يتوسل أحدا، هكذا يريدك الألمان أن تفهمهم حتى لو قلت في نفسك إنهم بلا عاطفة.
حسنا! لن أقترب من منطقة أبدو فيها أنني أنتهز أول فرصة أخرج فيها عن رسمية الباحث الواثق، حتى لو كان خروجا مبررا. قلت في نفسي بعد مغالبة ومفاضلة الخيارين: مغادرة المكان دون رضاي عن أسئلة لم يسألها ستكون أفضل من المغادرة تحت طائلة انطباع محتمل غير مرض أتركه مع وديعة من ثمانين نسخة من التحدي، وبعد أن قدرت أن اللقاء مع العميد قد أنهى غرضه، هممت بالخروج مستأذنا.
- سيد سلقان! مؤكد أنك تعرف الإجراءات، بعد اجتياز مرحلة المراجعة والطعن التي تستمر لشهرين سيحدد لك موعد الريغوروزم.
- يا ڤوول (تماما) - بنبرة رضا.
أيقنت أن جملته الأخيرة جاءت لتذييل نهاية للحديث ولن يتبعها سوى تحية الوداع، ووجدتني أملأ الهنيهات التي تتبع نهاية ردي عليه بانتظار كلمة الوداع من سيد المكان ليصبح قيامي عن مقعدي طبيعيا دون أي استباق أو تأخير.
" لم يمض عليك وقت طويل في هذه البلاد" ! كان هذا ما نطق به لكني لم أسمعه جيدا؟ وليس هناك أي سبب أني لم أسمع ما قاله سوى أنني كنت مغلقا على احتمال واحد قرره سياق الحديث، وهو أن أسمع كلمة واحدة انتظرها : آوف ڤيدرسي وتعني إلى اللقاء.