منذ إنشائها قبل أكثر من سبعين عاماً، قامت نظرية الأمن الإسرائيلية على قوة الردع، التي توفر على الاحتلال مهمة شن حرب هنا، وخوض مواجهة هناك، وقد راكم عناصر نظريته عبر سنين متواصلة، وجهود عديدة، وعلى جميع المستويات.
وعلى الرغم مما تفتقت عنه قريحة الخبراء الإسرائيليين، فإن النظريات الأمنية لم تحقق للاحتلال سوى مزيد من الانحدار والهبوط على المستويات المادية والمعنوية، ومنها استمرار صراعه الدامي مع المقاومة، الذي اتسم بقاعدة "عض الأصابع"، وشهد توجيه الاحتلال ضربات موجعة للمقاومة، كي تقر بقواعده المستحدثة للمواجهة، لكنه لم يتمكن من ذلك.
صحيح أن العدوانات الإسرائيلية الأخيرة أكدت فشله بتثبيت قواعده تلك، لكن ما أعلنه غادي آيزنكوت قائد جيش الاحتلال السابق في مقابلته الأخيرة التي أثارت ردود فعل غاضبة، يعد إقرارا جديدا من قمة هرم المؤسسة العسكرية بتأكيده أن عقيدتها انتقلت من مرحلة "كسب الحرب أمام الدول والقوى المعادية إلى الاكتفاء بتحسين الواقع الأمني لإسرائيل"..
إن إقرار آيزنكوت بتغيير المنطلقات العسكرية للاحتلال تعبير عن فشل ذريع منيت به نظرياته الأمنية، دفع بالعديد من دوائر صنع القرار لطرح أسئلة لوجستية تسببت بخسارة الاحتلال وتراجعه، ومنها: كم مرة لم يحقق جيش مسلح بطائرات "إف15" ودبابات المركافاة، وبين تنظيم عصابات، انتصارا كاسحا، ولماذا يدخل الجيش معارك لم يستعد لها، ولم يُجهز نفسه لمواجهة تلك الكمية الكبيرة من قاذفات الصواريخ بصورة ناجعة، هل بسبب نقص المعلومات الاستخبارية، أو لعدم وجود حلول لضرب المخابئ والمكامن الخفية للمقاومين؟
عدا عن ذلك يسأل الإسرائيليون في ضوء اعتراف آيزنكوت: كيف تراجعت الأهداف الردعية المعلنة من القضاء الكلي على قوى المقاومة، إلى الاكتفاء بالمطالبة بنزع أسلحتها؟ وقد تجسد ذلك في اللغة التي استخدمها قادة الجيش بين عدوان وآخر، ما يظهر التغيرات التي طرأت عليهم في نهايتها، فلم يعد الحديث عن "معركة وجها لوجه"، ولم يعودوا يعلنون "القضاء على العدو"، و"استئصال الغول"، بل الاكتفاء بـ"التغلب عليه"، فأسلوب الكلام المليء بالعجرفة، والإعلانات القوية مثل "نحن سننتصر" لم تعد تلائم مرحلة ما بعد انكسار القوة الرادعة!
إن نقطة الضعف الجوهرية التي كشفت إخفاق النظرية الأمنية الإسرائيلية، وأخذ طريقه نحو الاندحار الميداني، تتمثل بحقيقة تاريخية مفادها أن الاحتلال كيان لا يحتمل الهزيمة، ولو لمرة واحدة، وهنا نستحضر كلام "بن غوريون" القائل: "إذا انتصرت إسرائيل في خمسين حربا، فإنها لن تُخضع العالم العربي، لكن يكفي العرب أن ينتصروا في حرب واحدة من أجل القضاء عليها".