لا أعرف من الذي خانه الذكاء عندما خرج وقرر ونفذ وعرض لوحات كاريكاتير لإحياء ذكرى الرئيس الراحل ياسر عرفات في متحف ياسر عرفات؟ ولكن كالعادة ليس من الصعب تخيل ما يجري في هذا الوطن الذي ينخره الفساد من كل اتجاه. فالفساد يفسد العقل، لا بل ويعطّله. أتخيل الجهة المانحة التي عرضت الفكرة الرائعة، أتخيل اللهاث لتنفيذها، وأتخيل التسابق من أجل ركوب تحقيقها كإنجاز وطني عظيم.
إنجاز عنقودي يحيي ذكرى القائد الرمز.
أبتسم في كل مرة أتخيل فيها كواليس ما حصل. ما يحصل كل يوم من ركوب موجة ومن استغلال أمر والتكبير عاليا باسم الوطن. فتبقى مقولة “بدكم وطن أكثر أو فلوس أكثر” مقولة تذهب أدراج الرياح بعدما أتت عناقيدها بإنجازات كارثية متتالية. مجلس الوزراء يفتتح جلساته الأسبوعية كل مرة من زيارات للمدن بمشاريع تنموية يتم التصديق عليها. ترعبني هذه المشاريع. أتخيل أين تذهب بعد توقيعها. كم هي المشاريع بحجم مستشفى خالد الحسن التي لن ترى النور؟ وكما طوباس خزان النضال على حد تعبير رئيس الوزراء، فإن إحياء ذكرى الرئيس الرمز ياسر عرفات هو الدق بالنضال على الخزان.
كم خانته فهلويته هذه المرة؟
لم نسمع أي تعليق من رئيس الوزراء الذي انتشرت الأخبار والفيديوهات له بصوته الصداح وهو يتجول بالمعرض ضاحكا فرحا. لا اعتذار لا تبرير لا لجان تحقيق. فقط، مسح الصور والفيديو عن صفحته الرسمية وكأن شيئا لم يكن.
هل تشكّل هذه السقطة بسبب هذا المعرض دكّ مسمار آخر في نعش أصحاب هذه السلطة؟
كيف لهم معالجة الأمر؟ من يمكن أن يتهموا؟ هل إغلاق المعرض والمتحف ينهي الأزمة ويطفئ جماح غضب الشعب الذي لم يبق له إلا التمسك بالرمزية؟
لست ممن يحب الترميز ولا أريد أن يبقى لنا قائد رمز وحيد. ولكن يبقى ياسر عرفات رمزاً وحيداً يذكرنا بحلم الوطن البعيد وسط ما نعيشه من انتهاك وبيع لكل ما هو غالٍ ورخيص مما تبقى من وطن، من أجل بقاء زمرة متسلّطة تخمد نفَس كلّ من يعارضها.
ومرة أخرى نقف أمام الأسوأ في موقف بسيط. يتحمل رئيس الحكومة مسؤوليته الكاملة، لأنه هو من افتتح المعرض وتجول وصدح لنا بإحياء ذكرى الشهيد الرمز بكاريكاتيرات ساخرة. هذا الاستهتار بكل شيء هو المشكلة الحقيقية. ولا أستغرب محاولته التخلص من هذه الواقعة بمسح الخبر عن موقعه معتمدا على تراكم الكوارث المتلاحقة. فهناك ما هو أهم. ولكن لا يوجد ما هو أهم من الرمز في حياتنا.
إذ لا يوجد في حياتنا إلا رمز تزخر به شعارات التحرر. الشعارات ذاتها التي يرددها الجميع: السلطة والشعب. الفرقاء، والمختلفون، والمتقاتلون، والكارهون. الرمزية التي يحملها صاحب الكوفية في اذهاننا لحلم وطن قد يمسي في يوم حراً.
هذا الرمز الذي يشكل شعار كل مرحلة لأبناء الفصيل الحاكم. فكيف يخرج رئيس الحكومة من هذا المأزق الكبير؟ من الذي يجب محاسبته؟ رئيس مؤسسة ياسر عرفات؟ وزير الثقافة؟ مدير المتحف؟ اللجنة المسؤولة عن المعرض؟ ام الحارس الذي نقل اللوحات او العامل الذي علقها؟
في كل كلمة صرح
بها رئيس الوزراء ادانة له ومسؤولية. فلا يمكن ان يدعي انه لم يعرف ولم ير. على العكس يبدو من كلامه الواثق وكأن كل صورة وكل فنان وكل دولة مرت عن طريقه الى ذلك المعرض.
كما في ردة فعل الجماهير على فيلم “أصحاب ولا أعز”، نحتاج لمن يخمد فينا الحقيقة. فنحن شعب اكتفينا بياسر عرفات رمزاً وقائداً ابدياً. نرفع صوره ونردد أقواله ونعتز بكوفيته، ولكننا تركناه يُقتل، في الوقت الذي لا يزال قتلته يجولون بلا حساب. لجان تحقيق وحقائق لا نكترث أصلا بالسؤال عنها.
ألا يفهم هؤلاء أننا الشعب الساكت عن جريمة قتل قائده الرمز، قهراً وامتعاضاً وخوفاً، لا نريد لضميرنا المستتر وراء التسلط من كل اتجاه ان تُخدش حتى رمزية صورة هذا الرمز؟
الغضب الذي اجتاح نفوس الجميع تجاه الكاريكاتيرات الساخرة من القائد الرمز، يعبّر عن سخطنا من هواننا وذلنا وسكوتنا المفزع في التستر على جريمة قتل لم نأبه ولم نضغط ولا نحاول ان نعرف نتيجة التحقيق فيها.
الغضب إزاء الصور التي تم عرضها له جوانب عدّة، قد لا يكون أقلها أهمية أنه يعكس سخرية الوضع الذي وضعنا أنفسنا ورمزيتنا فيه، وجعلنا العالم يأتي الى معرض ليهزأ منّا.