كم علينا أن نكون سذجاً ومغفلين لكي نصدّق أن الترتيبات الجديدة التي يتداولها الإعلام حول مستقبل غزة وشبكة علاقاتها الجديدة تجري بمعزل عن الحرائق المستعرة في المنطقة العربية؟
وإلى أي حد ينفع أن توظف النوايا الحسنة والحكم على ظواهر الأمور ومعسول الوعود في إدارة المواقف السياسية وخصوصاً تلك التي تتضمن نقلات نوعية كبيرة، أو لنقل قفزات في الهواء غير محسوبة العواقب؟
لم تكن غزة في أي يوم من الأيام معزولة عن الواقع العربي، بتشابكاته وتحولاته، وبمخططات وترتيبات عرابي الثورة المضادة في الإقليم من أنظمة وأفراد. وقد رأينا كيف أن صدى التحولات التي ضربت المنطقة سُمع أول الأمر في غزة، ابتداء من سقوط مبارك، ثم انتخاب مرسي، ثم حدوث الانقلاب، وليس انتهاءً بتلك الضربات الحاسمة التي توجهها أنظمة الثورة المضادة لعدد من التيارات والأنظمة على مستوى الأمة، على أمل إعادة رسم مشهد عربي خاص، مغرق في التبعية والهوان واستلاب الإرادة، ومجرّد من كل عوامل الثورة والاحتجاج والرغبة في التغيير.
من الخطأ أن يتم النظر في مشاكل غزة ومآسيها بمعزل عن التحولات من حولها، فإن كان هناك من يرى أن أولويات غزة الآن التخلص من أزماتها المعيشية أو التقليل من فداحتها (وهذا من حقها)، فإن هناك من يرى أن من أولوياته التخلص من غزة بما تمثله من جبهة مقاومة وتمرد وصمود، وباعتبارها إحدى أهم الساحات الملهمة للإرادة داخل الأمة، فكيف الحال وغزة على حدود كيان الاحتلال وتمثل التهديد الأبرز له في المرحلة الحالية؟ هذا الكيان الذي يتسابق غلمان التخريب والإفساد داخل الأمة لنيل رضاه والظفر بالتقارب معه على حساب الثوابت والمبادئ، التي لم تعد تساوي شيئاً وفق المفهوم الجديد للعقلانية والتزام ثقافة الإذعان، والتبرؤ من كل متعلقات الثورة وشبهاتها!
إن كان مفهوماً أن يجتهد قادة غزة لحل أزماتها وإبداء قدر عالٍ من البراغماتية السياسية في سبيل ذلك، مع حرصهم على المقاومة وسلاحها، حتى لو اضطروا للتواصل مع أعداء الأمس أصحاب السجل الدموي داخل غزة وخارجها، فليس مقبولاً ولا مستساغاً أن نجد من يتطوع من جمهور المقاومة وملتزمي صفها بالثناء على أولئك الخصوم والترويج لأكذوبة تغيرهم الإيجابي، وأنهم يمثلون تياراً إصلاحياً داخل حركتهم، فكيف الحال وواقعهم يقول بجلاء إنهم مجرد ذراع ضارب لأنظمة الثورة المضادة، وثبت تورطهم في إدارة عمليات تخريب لصالح تلك الأنظمة في أكثر من بلد؟
مثلما أن السياسة تحتمل الواقعية والبحث عن المصالح والتقاطعات، فإنها تلزم من يمارسها أيضاً بأن يحفظ لنفسه خط الرجعة، وأن يدرس خياراته جيداً قبل اعتمادها، وأن يعتمد لغة متوازنة في التعاطي مع الخصوم حتى لو تحولوا إلى حلفاء مؤقتين، بل أن يفترض فيهم المكر والخديعة حتى وهو يوقع معهم تسويات أو اتفاقات معينة.
لم يعد في هذا العالم من يعطي دون مقابل، هذا في الحياة العامة العادية، فما بالك في عالم السياسة؟ وكيف إذا كنا نتحدث عن غزة؟ الجبهة التي أذلت عدوها بقدر ما صفعت الجبناء والمنهزمين من فلسطينيين وعرب، والبقعة التي يبدو تطويعها وإعادة احتلالها أو تحجيم دورها حلماً لدى كل أعداء المقاومة ومنكري نهجها (وما أكثرهم). إذ بقدر ما يبدو كيان الاحتلال غير متعايش مع فكرة أن هناك قوة مسلحة تنمو بالقرب منه وتنتهج وسائل متطورة باستمرار لمقاومته، فإن محور الشر والإفساد داخل الأمة منزعج ومرتعد بالقدر نفسه من وجود غزة ومن بقائها متحررة من سطوة العبيد وإملاءات العملاء.
غزة لم تكن يوماً مستثناة من الساحات المراد تطويعها أو ترهيبها أو إعادة تشكيل سياساتها داخل الأمة، والسهام التي أصابت داعميها أريد لها أن تنفذ إلى قلبها، ولكن بطرق خبيثة مواربة، يحسبها الظمآن انفراجًا، لكنها تخفي خديعة ومكراً لا تخطئهما عين مبصر. وإن كان من حق غزة أن تستغل من يريد استغلالها لكي يحقق مآرب خاصة أو ينفّذ أجندة داعميه، فلا أقل من البقاء في خانة التوازن المبصر، والنباهة الحاضرة، ولعل من مقتضيات ذلك تجنب تلميع صورة الفاسدين والمجرمين، أو الترويج لنظرية تغيرهم للأفضل، فهذه ليست سياسة، بل إكراميات مجانية وتبعاتها وخيمة.