فلسطين أون لاين

أنا غزة يا إخوتي وقاع الجب لم يعد يخيفني.. لماذا الحصار الذي طال عليه العمر؟

قريبا جدا ستتحول حكاية غــزة الفلسطينية إلى أسطورة تاريخية فلتت من بين أيدينا وأيدي العالم لتدخل بوابة الخلود في عجائب السياسة العالمية وانحطاط مرحلة تاريخية بأكملها، مرحلة في ذروتها يساق التطور الأخلاقي والديموقراطي والحداثي العالمي الذي يدعيه عالم اليوم وتخليه عن ذاكرته وعن إنسانيته وتصديقه لخدعة القوة والحقوق البشرية، حكاية غزة هي تؤام الفكرة الإبداعية الاسرائيلية الاستراتيجية التي اسمها (المصالحة) والتي لا يمكن أن تتحقق كما حصار غزة الذي لا يمكن أن يتفكك.

حتى اليوم بلغ عدد التهديدات بقصف غزة ما يزيد عن ألف تهديد ووعيد بالقصف والضرب والتحطيم، إنها المدينة التي تعيش على التوتر والقلق والجريمة الجاهزة بالانتظار ونالت من الأذى والتدمير المادي والمعنوي ما لم يسجله التاريخ من قبل، بلغت المدينة الفلسطينية منزلة العزاء في ضمير العرب و منزلة النسيان في ضمير العالم المنافق، تحول الألم الإنساني والمعاناة والقهر والحرمان والضنك المعيشي إلى منحوتة جرانيتية مصمودة في مدخل الأمم المتحدة فرجة للعابرين ومسرة للزائرين، تحولت معاناة أبناء غزة إلى جنسية وإقامة دائمة في وجدان وضمير الأنظمة العربية وتعيش غزة اليوم في بحيرة مصطنعة من السراب والوهم الذي يمكنك ان تقضي كل عمرك وأنت تجري خلفه دون أن تظفر بشيء منه، هذه البحيرة الموعودة اسمها فك الحصار و أعجوبة المصالحة.

غزة لم تحرق ولم تقصف فقط لأجل كسر الشعب الفلسطيني أو تكسير عظام المقاومة، هنالك ما هو أكثر وهنالك استثمارات جانبية لها سوقها الموازي، هناك أفكار خلاقة من (الفريق الخلاق) للاستثمار في حصار غزة،، فكلما أراد مرشح لحزب اليسار أو اليمين من بني صهيون عمل الحملة الانتخابية الجيدة وذات المواصفات المحمودة وفتح شهوة الدم عند شعب الله المختار فعليك بدماء غزة ولا سبيل افضل من إراقة دماء أطفال الشعب الفلسطيني في غزة حتى ترتفع حمى الناخبين ويهللوا عاليا، اقصف غزة لأنها مساحة محصورة والشرر لن يتطاير بعيدا من حقل التجارب ولن يؤذي أحدا من غير المعنيين، يمكنك أن تقتل بصمت وتحرق بصمت ويا دار التلمود ما دخلك الشر! كلما أراد وزير أو رئيس وزراء من دولة الكيان أن يخفي فضيحة أو يموه العيون عن جريمة قذرة ومحاسبة داخلية فلا يوجد أفضل من حرق عدة مزارع وطرح عدة أبراج أرضا داخل غزة لأنها السور الواطي والحلال الزلال الحاضر دوما لتلقي كل اشكال الجرائم التاريخية والمحرمة في العرف الدولي الكذاب وبحماية وفرجة من كل المتفرجين، هل لديكم أسلحة حديثة أو مبتكرة وترغبون في التجريب ودراسة النتائج؟ هاتوها ولا عليكم لأن غــزة جاهزة للضرب والحرق بالفوسفور والعناقيد ومسببات الالتهاب ومقيحات العيون ولا مشكلة فالكل معنا! إنها المدينة المخصصة لعار الأمم التاريخي والجرائم ضد الإنسانية ولن يسمع أحد صوتها أو شكواها أو بكاءها ولا يهم عدد الموتى او الجرحى ولا يهم صراخ الشجر ولا البيارات.

 وعندما يرغب رئيس سلطة في تأديب وتهذيب البقية الباقية ممن يحاولون رفع أصواتهم من أسفل الطاولات بأكثر من اللازم كان قصف غزة يأتي كعربدة وتخويف واستقواء إضافي لنهج الخيانة ولردع هؤلاء بإيماءة (هص ولا كلمة وإلا) إنها الاستقواء بحرق أبناء الوطن لتخويف الوطن بأكملة. وعندما كان زعماء العرب يرغبون في (تأديب) شعوبهم وإعادة تربية أولئك المعارضين أو الذين يحاولون الصراخ فوق السور الشائك من فرط الألم كان ضرب غزة بمثابة رسالة تشبيح عليهم ورسالة عبرة ومحاكاة لنفس المصير وإعادة الصمت إلى السجون الكبيرة.. لكن غزة الأبية كانت تعكس الدرس في كل مرة من حيث لا يحتسبون وعلا الصراخ كل الأرض من شرقها حتى غربها واهتزت جدران السجون كأنها تريد أن تتفتت لولا أن قبض على قلبها.

 الاستثمار في حصار غزة والأزمة المبتكرة المسماة بالمصالحة كان أيضا وسيلة تربح وتقديم خدمات وإظهار قيمة وجودية وثقل سياسي لكثير من الأنظمة المتقزمة تاريخيا ووجوديا والتي تحولت إلى بورصة مزايدات على الشعب الفلسطيني واللعب على المزيد من خنقه وتشليحه وقتله وتحويل حياته الى جحيم لأنه لا يعنيهم في شيء إلا كورقة ربح أو خسارة حيث تفككت عرى الأخوة ووحدة الدم والدين واللغة والتاريخ والأرض والمصير وتحول الحصار إلى جزء من لعبة البوكر على طاولات القمار الأمريكي، ورقة غزة كانت حجة أيضا لتلاقي الاجتماع الاستعماري وابراز وصقل التهديد الاسلامي ووضعه على طاولة اليانكي الامريكي وتقديمه بحلة (الإمارة الإسلامية) لابتزاز المزيد من الضمانات لبني (إسرائيل) وبتعاون عربي مباشر تحت بند الاستفادة من مخصصات وميزانيات الحرب العظمى المقدسة الصليبية على الارهاب أو ما يسمى بحرب داحس والغبراء بصيغتها الأمريكية الحداثية ! قرارات الحروب السابقة على غزة كلها لم تكن لتمضي دون توقيعين أساسيين على إذن البدء بالحرق: توقيع أمريكيا وتوقيع المنظومة العربية الجاهز دوما لما فيه مصلحة المنطقة والحرب على الإرهاب واستمرار العيش في نعمها!

إن الاستثمار في حصار غزة ولعبة البوكر التي اسمها المصالحة  ومشتقات الحرب على غزة لا تختلف عن الاستثمار في كورونا الحاضرة الجاهزة فهي تشكل سوق خضروات اسرائيلية خصبة صاعدة الأسهم لعصابة متعددة الجنسيات تضخ استثمارات تشغيلية هائلة في هذا الحصار منذ ما يزيد عن عشر سنوات من العذاب المتواصل لأهل القطاع، هذه الخدمات أكثر من خدمات لوجستية واستخبارية وسياسية لأنها شكلت من حيث لا أحد يدري عائلة كبيرة سعيدة من الأقطاب والرؤوس المتفرعة التي تجمعها روح الإجرام والتصهين والسوء البشري الأفدح إجراما من النازية التاريخية،  الاستثمار في حصار غزة هو باب سياسي استراتيجي تكتيكي يمكن اختصاره بعبارة واحدة فقط وهي أن المعركة مع قطعة صغيرة من فلسطين وإبرازها ككيان معاد ومتحمل لكل الوزر الاشتباكي أفضل من فتح بلاد بأكملها وتحويلها إلى ساحة نار ممتدة وغير مضبوطة الحدود، تثبيت الحصار على غزة وجعلها كيانا معاديا ومنفصلا والتركيز عليها في وسائل الإعلام أنها شأن صابئ خارج عن خيمة الطاعة العربية هو بمثابة إجماع (الفريق الخلاق) لتبرير كل الطروحات المميتة للقضية الفلسطينية برمتها، إن حصار غزة هو بمثابة تعبئة الفراغ لخانة الاشغال الاستعماري وتحويلها بالاستدارة إلى مركز الثقل السياسي بالصيغة الانسانية والمساعدات والتعاطف مع يتامى وثكالى وأصحاب أعضاء مبتورة ومهجرين من مساكنهم، يضاف إلى ذلك أكذوبة وهم الاعمار والازدهار والبحث عن مصير لا يمكن ايجاده لخدمة القضية الاسرائيلية في أكبر عملية استيلاء على المنطقة العربية، وبذلك فإن غزة المسكينة هي الضمير الحاضر الغائب عن كل هذه الكيانات التي حملت وزرها على ظهر غــزة وفي نفس الوقت تناست مصير مليونين ونصف من الأرواح الهائلة التي تختنق وتموت ببطء دون ان يسال أحد أو يفكر أحد بهؤلاء كيف يعيشون وتناست قضية شعب فلسطيني بأكمله يتألم ويعاني منذ أكثر من مائة سنة تحت احتلال مجرم أشد عتيا من النازية، إن غزة تدفع الثمن الفادح لخيانة أكثر من مليار عربي يتفرجون على مأساتها في بث حي ومباشر تماما مثلما يتفرجون على المسرح المفتوح للدم العربي في اليمن ولبنان وسوريا والعراق وليبيا والبقية الباقية.

أنا غزة يا أمة العرب، أنا مليونان ونصف من أعماركم ورمق السنوات التي تعيشون وفيها تضحكون وتبكون، أنا غزة يا أخوتي حيث الدم لا يهجر الدم ولا الراية تخذل الراية ولا العهد ينقض العهد، أنا اليتيمة المنبوذة على باب فتوحات العرب وأنا المكتوبة على باب حطة وباب القديسين، أنا غزة يا أخوتي وفراشات جراحي تسافر في كل العالم.

أنا غزة وفي منامي رأيت إثني وعشرين كوكبا لي ساجدين وتحت جناحي حائرين، أنا غزة يا أمة الاسلام التي يقيم الجوع على أسوارها ويطوفها الحزن ليلا ويرى الناس فيها ملاك الموت رأي العين، أنا غزة يا أهل مصر التي تحبكم مثلما تعشق البحر ولون السحابات المقيمة على شاطئ اليم، أنا غزة يا أهل العراق التي حفظت لكم في القلب دعوتين وفي العين دمعتين، أنا غزة يا أهل الشام واهل المغرب ودار الحب الأزلي الذي سيجمعكم، أنا غــزة يا أهل الله التي رجمت آل السامري بالنار وثأرت لمليار عربي وكسرت الصلبان المعقوفة.

 أنا قطعة من نار ودار من أسوار وحب ودثار، أنا غزة يا أهل الله التي نسيتم فيها قلوبكم وقست فيها كلماتكم، أنا غزة التي تمطر سماؤها الشتاء المبارك وتعيش في ليلة المطر قرب نافذتك كأنك في جنات النعيم، وإن تقربت أشجارها ستعيش ساربا في الليل مستخف في النهار وتقسم أن الشجر يتكلم، أنا غزة التي يعيش قلبها بحبكم ودعائكم وصوتكم وينتفض شجرها لصيحات جنين ونابلس والجراح وجبل المكبر.

 أنا غزة التي يزلزل أذان الفجر فيها قلوب المستوطنين، ويدك قلوب المتصهينين، أنا غزة يا إخوتي ولم يعد في العمر إلا رصاصة واحـــدة، ولا في الجبل إلا القذيفة الأخيرة، أنا داركم وسلام إقامتكم ومهد بعثكم وديمومة حياتكم. أنا غزة يا أمة الإسلام، ذات العشرين ألف شهيد، وذات كل متر مربع قذيفة أو صاروخ، أنا التي احترقت أرضي بالفوسفور واشتعلت سمائي بعناقيد النار ودخان الطيور المعدنية، أنا صاحبة ألف رضيع شهيد، وصاحبة الشاطئ الشهيد والبحر الشهيد والرمل الشهيد. أنا أم نضال فرحات التي لم يخلق مثلها في البلاد والقسام التي قصفت عاد، انا التي أمسكت أكبر حريق وأطفأت أكبر نار أشعلها اهل النار، أنا التي أزهرت أرضي بالزهري والأصفر والأخضر وتزينت في بيوتي أشجار الحور بضياء الشهداء الخضر العين، أنا غـــزة يا اخوتي وحر الظهيرة لم يسقني ماء الاستسلام، ولم تعد غياهب الجب تخيفني بعد اليوم!

غزة أيتها اليتيمة في سنوات اللاغفران وسماء من دخان كم من ملك في السموات والأرض بكى حين أشعل تاجر البندقية الحريق في الدار وسرق أرواح الصغار. غزة أيتها المتحدية في ليل العروبة الطويل وسهرات أصحاب الفيل كم من ملك في السموات استأذن الله أن يخسف بهم الأرض والجبال والبحـــار لأجل طفلة ثقب رأسها السامري بشظية أمريكية! غزة يا وردية الحب ودافئة البيت كم من ليلة ماطرة بكت في موســم القتال السرمدي ورحلة الشتاء والصيف بين القلب وفلسطين أوبين المجدل وكروم الشمس وشيء من عنب الخليل؟ لا تحزني وقري عينا وهزي إليك بجذع الصاروخ إلى تل أبيب تساقط عليهم سعيرا ونارا. لا تحزني ولا تخافي وأنثري هذا العالم في انفجارك الذري وكوكبك الدري فأنت فارس هذا الزمان الوحيــد وسواك المسوخ.

 لا تخافي ولا تحزني وسيعود الربيع ليزهر فوق أكتافك وتحلق الأسراب قرب النخيل الأخضر وتشرق الشمس لأجلك، لا تحزني وقري عينا وستكونين ملكة المحبة للعالم الجديد وتحوط قدميك مدن النصر فوق الرماد الأخير. لا تحزني وابتسمي فوق الجراح واطلقي ساقيك قرب الشاطئ من جديد وستكون ضحكاتك خيلا يحمل دموع الشعوب رفقا بين يديك ومحبة من قلبك الذي سيحتضن كل فلسطين وكل شعوب العرب التي تعشق ترابك وأهلك.

المصدر / رأي اليوم