الانتخابات ليست هي الوسيلة المثلى لاختيار الأشخاص الأكفاء لتولي المناصب العامة، ولكنها الوسيلة الأفضل حتى الآن التي من الممكن أن تمكن الشعب من ممارسة سلطاته الأصلية، ثم تفويضه بعض الأشخاص من طريق الاقتراع مدة محددة ليمارسوا بعضًا من هذه السلطات نيابة عنه ووفقًا لشروط محددة.
ما زالت طريقة تفكير كثير من الأحزاب والأفراد في العالم العربي تنظر إلى الانتخابات بشكل مختلف تمامًا عن طبيعة الانتخابات والهدف منها، ولا تعدو عندها الانتخابات وسيلة "غير مريحة" للتمسك بالسلطة، ولذلك لا بأس عند كثير من الأحزاب في تزوير هذه الانتخابات أو إلغائها أو تأجيلها، إذا كانت هناك مؤشرات على عدم فوز هذه الأحزاب في فيها.
الأمر لدينا في فلسطين لا يختلف عن دول العالم العربي، فالانتخابات تمثل "صراعًا وجوديًّا" لدى بعض الأحزاب والأشخاص، ولا ينظر إليها البتة على أنها وسيلة لتبوء منصب عام بالاختيار الحر للمواطن الذي هو صاحب السلطة أساسًا ليمثله شخص في هذا المركز وفقًا للشروط التي اتفقا عليها، ولكن ينظر إليها وسيلة للتحكم في المواطن وقهره وفرض الأجندة الحزبية عليه رغم أنفه.
في فلسطين أجريت الانتخابات التشريعية مرتين فقط، وذلك في عام 1996م وبعد عشر سنوات في عام 2006م، أما الانتخابات البلدية فقد أجربت في عام 2005م في بعض من الهيئات المحلية بالضفة الغربية وقطاع غزة، وعندما شعرت حركة فتح أن حظوظها في هذه الانتخابات قليلة، وأن هناك اكتساحًا لمقاعد الهيئات المحلية من حركة حماس؛ أوقفت هذه الانتخابات تمامًا، ثم في عام 2010م دعا مجلس الوزراء الذي شكله الرئيس أبو مازن لإجراء الانتخابات المحلية، لكنه ما لبث أن أعلن إلغاءها بسبب عدم قدرة حركة فتح على الاتفاق على قوائم مرشحيها لهذه الانتخابات.
في عام 2017م حصل توافق وطني على إجراء الانتخابات المحلية مرة أخرى، وبعد أن بدأت العملية فعليًّا ووصلت إلى مرحلة الطعون المنصوص عليها في القانون، وعندما أسقطت لجنة الانتخابات المركزية وكذلك المحاكم المختصة -وهي محاكم البداية- عددًا من القوائم لحركة فتح، لمخالفة بعض مرشحيها شروط الترشح بناءً على عدد من الطعون؛ ألغيت هذه الانتخابات مرة أخرى، ولكن "بشكل أنيق" من طريق حكم قضائي إداري بدعوى واهية، وهي أن القضاء في غزة "غير شرعي"، هذا القضاء الذي حكم في عشرات الآلاف من القضايا!
في عام 2021م ألغى أبو مازن أيضًا الانتخابات التشريعية بعد أن وصلت إلى مرحلة الدعاية الانتخابية، بحجة أن الاحتلال يرفض إجراءها في القدس، ورغم رفض المجتمع الفلسطيني أحزابه وفصائله وقواه المدنية قراره أصر عليه، ومضى فيه قدمًا، غير عابئ بكل هذا الرفض الوطني.
وفي أواخر 2021م دعا مجلس الوزراء الذي شكله الرئيس أبو مازن لإجراء الانتخابات في بعض الهيئات المحلية بالمناطق المصنفة (ج) (وفقًا لاتفاقية أوسلو) أي الخاضعة للسيطرة الأمنية الصهيونية، وبعد أن أعلنت نتائج هذه المرحلة قرر المجلس أن يبدأ في المرحلة الثانية، وطلبت لجنة الانتخابات من حركة حماس السماح بإجراءاتها في غزة، وقد طلبت حركة حماس ضمانات لهذه العملية، خصوصًا بعد التجربة المريرة مع أبي مازن في لعبة إلغاء الانتخابات، وهي مطالب عادلة من وجهة نظري، لكن لجنة الانتخابات عدتها مطالب سياسية، وبناءً على ذلك عدت رد حركة حماس بمنزلة رفض لهذه الانتخابات.
موقف لجنة الانتخابات -حسب اعتقادي- موقف غير سليم البتة، للأسباب الآتية:
أولًا: كان الأحرى بلجنة الانتخابات أن تلتزم الصمت، وتترك الحركات والفصائل تتناقش وتتفاوض في عملية الانتخابات، وتستمر هي في عملها المهني الفني دون التدخل في هذه المسألة.
ثانيًا: يلاحظ أن لجنة الانتخابات (المشكل إياها أبو مازن) تتخذ دائمًا مواقف مطابقة لمواقف أبي مازن، حتى لو كانت مخالفة للقانون الذي يحكم عملها، مثل التزامها بقراره تأجيل الانتخابات التشريعية، رغم عدم امتلاكه هذه الصلاحية.
ثالثًا: تعلم لجنة الانتخابات يقينًا أن من عطل الانتخابات أشكالها كلها هو أبو مازن، ولكنها رغم ذلك لم تتخذ أي موقف مهني حيال هذا الأمر، ولكن كانت دائمًا تتهم أطرافًا أخرى بالتعطيل، وتتغاضى حتى عن الجرائم الانتخابية التي من المفترض أن تكون هي صاحب الشكوى فيها، مثل قضية التلاعب بسجلات الناخبين في الانتخابات التشريعية التي أُلغيت، فلم نسمع عن محاسبة أحد رغم ثبوت وقوع الجريمة ومعرفة الفاعلين.
من ناحية أخرى يبدو أن أبا مازن يتصرف في موضوع الانتخابات كما يتصرف في أي شأن فلسطيني آخر، فهو فقط الذي يقرر متى تبدأ وكيف تجرى ومتى تلغى، دون أن يلتفت إلى أي رأي آخر، حتى لو كان عليه إجماع فلسطيني، مثلما حدث في الانتخابات التشريعية العام الماضي، كذلك إن حركة فتح تتصرف في هذا السياق، وكأن لها حق الفيتو على إجراء الانتخابات، فتأذن بها إذا كانت ظروفها الحزبية تسمح بذلك، أما إذا كانت الأمور على غير ذلك فهي بكل بساطة تضع (فيتو) عليها كما حدث عام 2010م، عندما أُلْغيت الانتخابات المحلية لعدم جهوزية حركة فتح لها.
لذلك إن الموقف بطلب الضمانات له ما يسوغه، بل هو موقف معبر عن الحالة الوطنية التي أصبحت بوضوح تتعارض كليًّا مع موقف أبي مازن وحركة فتح.