أربع حروب ومعارك خاضها شعبنا الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني في أقل من عقدين. كان للعدو في كل عدوان أهداف إستراتيجية معلنة وصريحة، كلها تستهدف المقاومة الفلسطينية مباشرة، سواء بإنهاء حكمها في قطاع غزة كما كان في 2008 (الفرقان، الرصاص المصبوب) أو كسر إرادة المقاومة في 2012 (حجارة السجيل، عمود السحاب) أو تدمير قوتها العسكرية والشعبية في 2014 (العصف المأكول، الجرف الصامد)، وأخيرًا ما هدف إلى تدمير شبكة أنفاقها في 2021 (سيف القدس، حارس الأسوار).
صحيح أن 91 يومًا من المعارك قدم خلالها الشعب الفلسطيني ومقاومته نحو 4200 شهيد وأكثر من 22700 جريح وقرابة 25000 بيت ومنشأة مدنية دُمِّرت كليًّا أو جزئيًّا، إضافة إلى استهداف حقيقي للتجهيزات العسكرية للمقاومة، إلا أن أيًّا من تلك الأهداف الإستراتيجية لم يتحقق، بمعنى إنهاء المقاومة. فقد خرجت بعد كل معركة أقوى عزيمة من الناحية العسكرية والخبرة العملياتية، وأكثر تأييدًا شعبيًّا وأوسع انتشارًا إعلاميًّا.
لا شك أن المعارك والحروب تستنزف مقدرات بشرية ومادية، فتسيل فيها دماء لا مياه، وتدمر فيها جهود عسكرية، قد بُذلت من أجل تحصيلها أموالٌ طائلة وتضررت في طريقها مصالح كثيرة؛ لكن ذلك هو ضمن الإعداد والتجهيز ومراكمة القوة وتطوير الخبرات، استعدادًا للمعركة القادمة التي قد لا تكون الأخيرة؛ لكنها بالتأكيد أكثر إيلامًا للعدو وأشد تدميرًا، وهذا ما يقر به قادة الاحتلال ومحللوه العسكريون والأمنيون.
لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية أنها قادرة على ترميم قدراتها العسكرية وتطويرها، بما يناسب طبيعة العدو الذي يتمتع بدعم غير محدود من دول عظمى وكيانات إقليمية، تعمل ليل نهار من أجل منع خطوط الإمداد العسكرية سواء عبر البحار أو الصحراء أو الجبال.
ولعل معركة سيف القدس كانت أولى المعارك التي استطاعت المقاومة أن تبادر فيها بإشعال صاعق التفجير الوطني، والذي كان عنوانه القدس ومعاناة أهالي حي الشيخ جراح. وقد بات من الواضح أن صواعق التفجير متعددة بيد المقاومة، وهي ترتبط مباشرة بالثوابت الوطنية كاللاجئين والأسرى والمقدسات. وهذا ما تواترت على ذكره مقالات وخطابات ورسائل صريحة وأخرى مبطنة، صدرت في الأشهر التي تبعت معركة سيف القدس منذ مايو 2021 مرورًا بمناورات الركن الشديد نهاية ذلك العام، وتداخلت مع كل أحداث وتفاعلات عام 2021 التي -لا شك- ستؤثر في طبيعة العلاقة مع الاحتلال سواء على مستوى نوعية المعركة القادمة ومكانها وأسلوبها العملياتي.
إن الإصرار على عدم ربط أي تفاهمات إنسانية أو اقتصادية مع الاحتلال بملف تبادل الأسرى، يؤكد جدية المقاومة في توسيع رقعة عملها العسكري على أساس من الشمولية والتركيز، وهي جاهزة لدفع أي ثمن مكافئ للحفاظ على ثوابت القضية الفلسطينية، التي لا يمكن أن تتبدل أو تتغير أو تسقط، بكثرة الشهداء أو حجم التضحيات؛ فإن الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس هي ثلاثية إجماع وطني توارثتها الأجيال الفلسطينية وتزينت بها الموجات الثورية منذ أكثر من سبعة عقود من المقاومة للاحتلال الصهيوني.
لقد بات ثابتًا بأن حدثًا ميدانيًّا كانطلاق عدة صواريخ من قطاع غزة في الشتاء نتيجة الأحوال الجوية، أو قتل جندي عند الجدار الأمني صيفًا، لا تعني خوض معركة مفتوحة مع المقاومة في غزة. وفي المقابل أصبح من غير الممكن فصل سلوك الاحتلال ضد الفلسطيني في الضفة أو الداخل المحتل أو حتى داخل السجون عن قرار المواجهة، فكلها مواقع تمتلك فيها المقاومة صواعق تفجير حقيقية.