ينتهي العام وينتهي ما يمكن ان يعوّل عليه المرء المتفائل بأي امل في سلطة لم تحفظ ماء الوجه حتى لمن يريد الدفاع عنها من أصحابها. وكأنهم جميعا في مفرمة تتلطش اجزاؤهم في كل اتجاه لم يعد أي منهم يميز إلا ما يمكن ان يكون خلاصه. كيف لنا ان نفسر هذا الكم من المأساوية إلا من خلال مشهد سوداوي الوصف؟
ذكرتني تغريدة حسين الشيخ عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ورئيس الهيئة العامة للشؤون المدنية التي استشهد من خلالها بآية لقوله تعالى " فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" وتفاخره ب"ان الموقف الصحيح أفضل من الموقف المريح"، بصناعة الزبدة! بالفعل المطلوب هو تصاريح وتسهيلات تجعل منهم أكثر تمسكا وتسلطا على وجودنا كشعب تدور به وعليه طاحونة الدرس.
فالصراحة والجرأة التي تحدث عنها الشيخ تمركزت بالنسبة لجانتس بكلمتين تدابير امنية واقتصادية.
بالتأكيد زيارة رئيس السلطة واعوانه الشيخ وفرج لوزير الحرب الإسرائيلي جانتس اسدت الستار وأنهت الكلام. فماذا يمكن ان يقال بعد هذا؟ الأسوأ هو التصريحات التي لا يتوانى هؤلاء من التصريح بها ضاربين بعرض الحائط الشعب. شعب يترك هؤلاء يحكمونه يستحق ان تكون هذه مستوى قيادته بالتأكيد.
الحقيقة انني وبين كل هذه الهزلية المأساوية أحزن على ما وصل اليه رئيس السلطة في أيامه التي يمكن ان تكون الأخيرة. نعم الاعمار بيد الله، ولكن إذا ما تركنا لقاعدة الحياة بإعطائنا بعض المنطق لسيرورة الاعمار، فعمره أقرب إلى النهاية. هل يمكن ان يكون ما يصدر عنه من تصريحات وقرارات وتحركات مقرون باقتراب النهاية؟ هل يعقل ان ينتهي به المطاف ليكون وضعه كرئيس سلطة بمستوى ذهابه إلى بيت وزير الحرب الإسرائيلي ليلتمس منه بعض التطمينات ويعود اعوانه ببعض التصاريح، وتنفيذ وعودات سابقة بلم شمل عائلات، وقرض بمئة مليون شيكل والأسلحة المطلوبة لقمع الشعب أكثر؟
بالعادة، يمكن ان نقول ان ذاكرتنا ذاكرة سمكة، فننسى. ننسى ما قيل قبل سنوات على الرغم من كثر تكراره جعلنا نحفظه، بين شعارات وتهديدات وتنديدات على لسان رئيس السلطة. ولكن ما صرح به في كلمته الأخيرة المسجلة للأمم المتحدة قبل شهور قليلة لا يزال يصدح في ارجائنا. فلقد قيل لنا ان هذه الكلمة ستكون الكلمة ستكون التحذير الأخير للعالم. وربما كان هذا العالم بانتظار هذه الخطوة "الجليلة"، فكانت العناوين التي تصدرت تايمز اوف إسرائيل تقول: "العالم يحيي لقاء غانتس عباس، امال لتعاون مستمر في ٢٠٢٢". فماذا يفهم رئيس السلطة نفسه من تصريحه وافعاله؟ لم ينتهِ من كلمته التي أعطى بها (إسرائيل) مهلة سنة لإنهاء الاحتلال أو وقف الاستيطان أو إيجاد حل لا يهم، إلا وكان يطلب لقاء مع أي وزير في (إسرائيل). وتم رفض اللقاءات به تباعا إلا من غانتس، وكأن رسالة إسرائيل واضحة لا التباس فيها: هذا هو وضعك معنا، مجرد رئيس برتبة منسق أمني لشؤوننا، وسنساعدك في القضاء على اعدائك(نا). فلم تلبث أيام إلا وكانت تغريدة الصحافي الإسرائيلي يوني بن مناحيم "تبشر" بنتائج الاجتماع: "ضربة لحماس: إسرائيل صادرت ٢.٦ مليون شيكل بالعملات الافتراضية. بعد تسهيلات أبو مازن: وقع وزير الدفاع على أمر الاستيلاء على رأس المال الذي طرحته شركة صرافة في غزة وأعلنت منظمة إرهابية. • جانز: "سنواصل ملاحقة أموال الإرهابيين".
المصيبة اننا قد نفهم مثلا ان يختال بنا رئيس الوزراء في تصريحاته، من تطعيمات وإجراءات ومشاريع بالملايين وبطالة منخفضة وارقاما لما لا يمس الحقيقة بصلة. بالنهاية يقوم بعرضه امام الشعب الذي لا يمتلك من المعلومات إلا ما يقولها النظام وما يبثه من خلال وزاراته وسلطاته واعلامه. وكل هؤلاء في قبضة الحكومة. طبعا، يستطيع الانسان العادي ان يفهم اللغط عندما ينظر حوله ويرى عيشته المعدمة، فيكمل يومه بلا اكتراث لأن قوت يومه الذي لا يعرف كيف سيؤمنه لم يؤمن بعد. ولكن عند اللقاءات مع الإسرائيليين لا يمكن التوقع ان الساحة فارغة لهم ولإعلامهم ولوسائلهم. فهم يقدمون أنفسهم على طبق فارغ للصحافة الإسرائيلية التي لا تزال تعنى بالشأن الفلسطيني أحيانا.
الم يتوقع الرئيس ومن ذهب معه ومن رتب اللقاء ان هذه كارثة. يعني لو كان هناك مستشار عاقل للرئيس لفكر انه لا يجب اجراء هكذا لقاء للحفاظ على الأقل بمظهر الرئيس امام العالم. من سيكلم أو يجتمع مع رئيس تتناقض افعاله وكلماته من لحظة إلى أخرى؟ في نفس الوقت الذي كان الرئيس يجلس مع جانتس يؤكد له امن إسرائيل وحفاظه عليه، كان هناك تداول لتسجيل صوتي له مع أحد المحافظين يدعو فيها اهل قرية برقة للمقاومة والتصدي وانهال في لعناته ودعواته على العدو الظالم.
تصريحات مدوية من كل اتجاه لأفعال لا ترقى لأي مشهد على الأرض. مشهد تصدي انتهى بتوزيع أو تركيب حمايات وأسلاك شائكة لأهالي القرية لحمايتهم من هجمات المستوطنين والجنود.
تنهى هذه السنة على عكس ما بدأت. فلقد بدأت بوهم الانتخابات التي لن تجرى وانتهت بحقيقة دور السلطة الفلسطينية الذي حصل على كل ما يريد: بقاء رئيس السلطة وإعطاء المئات من التصاريح لأرباب السلطة ومنتفعيها وتزويدهم بالأسلحة لقمع أي اضطراب يهدد بقاء الرئيس في سلطته.
وحتى يأتي امر الله، سيتم تعيين المزيد من السفراء وفتح المزيد من السلطات والوزارات ان تطلبت الحاجة وتفريغ المزيد من المواقع وتعيين كل من يصل صوت نفوذه ويد تسلطه إلى الرئاسة فتناله هبة المراسيم الرئاسية.
حتى يأتي امر الله، سترتفع المباني وتمتد المنتجعات على أراضي كانت "للدولة". ستفتح شركات واستثمارات ومطاعم وملاهي، ليغنى هؤلاء أكثر، وتقل أكثر نسبة البطالة، لأن الشعب قد عرف طريق رزقه من خلال فتحات الجدار المتفرقة لذل ارحم. لذل يقترب من الاستعباد ربما، ولكنه بالتأكيد لا يجعل من المواطن عامل سخرة لدى إقطاعيّي السلطة المتسلطة عليه.