شابٌ لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره خرج من قرية "العمار" بمحافظة "القليوبية" ضمن نطاق القاهرة الكبرى، يحمل مصحفًا وبندقية وإيمانًا في قلبٍ اتسع لحب فلسطين والدفاع عنها ليسرج للمسجد الأقصى دمًا لا ينطفئ نوره، يحرك الذاكرة في الوجدان العربي عن تضحيات الشهداء العرب الذين دافعوا عن فلسطين عام 1967، وما تزال دماؤهم وقبورهم شاهدةً على تلك التضحيات "المؤلمة".
مشى الجندي المصري خمسة كيلومترات فجر السبت الماضي، وتسلّق مرتفعات صخرية وبيئة سيناء الصعبة، وتجاوز السياج الفاصل بين مصر وفلسطين التاريخية وهو يتقرب من جنديين إسرائيليين فأرداهمَا قتيلين.
لم ينسحب المُنفّذ وظلّ يتخفّى معانقًا صخور فلسطين وترابها حتى اشتبك مع مجموعة جنود ثانية جاءت لتفقُّد القتيلين، فقتلَ ضابطًا ثالثًا وأصاب اثنين، وعند عجز الجنود أمام هذه الملحمة الأسطورية للشاب المصري تدخّل الطيران الحربي وارتقى الشهيد، ونزفت دماؤُه لتروي تراب فلسطين العطشى لحبٍّ رواه أبطال مصريون وعرب آخرون.
في حدث نوعي دخل الجندي المصري محمد صلاح التاريخ من أوسع أبوابه، وتزامن ذلك مع الذكرى الـ56 للنكسة (حرب الأيام الستة) التي وقعت في الخامس من يونيو/ حزيران 1967، وأكمل الاحتلال فيها احتلال قطاع غزة والضفة الغربية والقدس.
قد لا تمحي عملية الشاب المصري آثار "النكسة" الأليمة التي هزّت الوجدان العربي، لكنه ضمّد جراح الذاكرة وأنعش ذكراها المؤلمة بفرحٍ جديد، مسجلًا نصرًا و"هزيمة مهينة" لجيش الاحتلال ستبقى تُرافق ذكرى "النكسة" في السنوات القادمة لتُذكّر العرب بالمعركة الأسطورية التي خاضها.
الشهيد صلاح الذي كتب منشورًا عبر صفحته الشخصية على "فيسبوك": "من عزّ بالرحمن ظل عزيزًا"، وتفاعل خلال عدوان الاحتلال على غزة في مايو/ أيار 2021 على وسم "غزة تحت القصف" معلقًا: "الله يقف مع فلسطين"، أكد أنّ فلسطين هي البوصلة الحقيقية، وأنّ المعركة لم تنتهِ بعد، وأنّ هناك دَينًا مضى عليه خمسة عقود ونصف يجب أن يُردّ للاحتلال عبر فوهة البنادق.
اقرأ أيضًا: صحفيون مصريون يشيدون بعملية الجندي المصري ويرفضون التطبيع
دارت الحرب بين الاحتلال من جهة، ومصر وسوريا والأردن من جهة ثانية، في المدة ما بين الخامس وحتى العاشر من حزيران 1967، وأسفرت عن استكمال احتلال بقية الأراضي الفلسطينية؛ القدس، والضفة الغربية، والقطاع، والجولان السوري، وسيناء المصرية.
وجع غائر
عن ذلك يقول السفير الفلسطيني السابق د. ربحي حلوم: ذكرى النكسة تُمثّل وجعًا مرًّا لجرحٍ غائر في العقل والوجدان، يدفع بشدة وإلحاح باتجاه مداواته كي يبرأ، وهذا الوازع في متناول أيدينا جميعًا كشعب فلسطيني، يُحفّزنا على العض على الجرح عبر انتهاج الطريق الأنجع والأصوب لمحو آثاره.
وأضاف حلوم لصحيفة "فلسطين" أنّ محو آثار النكسة يتمثّل بدعم وإسناد وتعظيم المقاومة بكلّ أشكالها ضد الاحتلال، والمشاركة فيها حيثما أمكن ذلك، وبعث روحها في العقول والنفوس باعتبارها السبيل الوحيد لانتزاع حقوقنا وتطهير الأرض من رجس الاحتلال.
ولفت إلى أنّ السنوات الخمسة والسبعين من عمر النكبة أثبتت أنّ المقاومة وحدها الكفيلة بردع الاحتلال وتطهير الوطن من رجسه.
وربط بين عملية الجندي المصري وذكرى النكسة، بأنه في بضع ساعات أعقبت العملية البطولية البارعة للجندي المصري الشهيد محمد صلاح، اهتزت أركان الاحتلال، وما تزال تهتز نتيجة هذا الفعل البطولي على بساطته والإبداع في تحقيقه على يد جندي بسيط مسلح ببندقيته اليتيمة، نقيَّ السريرة، عميق الإيمان والإرادة والانتماء لوطنه وأمته.
اقرأ أيضًا: هكذا كشفت عملية العوجا هشاشة مؤسسة الاحتلال الأمنية
إنعاش الذاكرة
بكلمات يملؤها الفرح، أشار لتفاعل الشعوب العربية المبتهج مع العملية "فكيف لا، والنفوس تغلي باتجاه شلّ يد هذا الاحتلال ومحوه من النفوس والوجود، كاستحقاق تاريخي مُلِح ومستحق".
وأظهر الشاب المصري، وفق الباحث بالشأن الإسرائيلي شادي ياسين، الشعور بأنّ هناك شعوبًا عربية ما تزال تدافع عن القضية الفلسطينية، وتُضمّد الجراح وتساند الشعب الفلسطيني في مقاومته وتُعزّز ثباته على الأرض وحقه في تقرير المصير.
وقال ياسين لـ"فلسطين": إنّ القضية الفلسطينية دائمة الحضور في قلوب الشعوب العربية، وأثبت ذلك ما قام به الجندي المصري تزامنًا مع ذكرى النكسة المؤلمة للشعب الفلسطيني، في وقت تغيب القضية من ضمائر الأنظمة.
إضافة إلى دماء الشهيد صلاح التي روت تراب فلسطين، أشار إلى أنّ قبور ومعدات شهداء من الجيش المصري والعراقي والأردني لا تزال تشهد على بطولاتهم في أثناء دفاعهم عن فلسطين، معربًا عن أمله أن تكون المرحلة المقبلة هي مرحلة "المقاوم العربي" الذي يدافع عن المقدسات الإسلامية وشرف الأمة ويرفع شعار "يا شعب فلسطين لست وحدك".