أثار تزامن سلسلة من الأحداث الهامة في الأيام بل في الساعات الأخيرة من العام 2021 ومن أهمها تصاعد المقاومة الوطنية الفلسطينية ومناورات الركن الشديد في غزه ولقاء رئيس السلطة أبو مازن مع وزير حرب الاحتلال بيني غانتس على أرض مجدل الصادق المحتلة عام 1948، أثار ذلك جملة من المعاني والدلائل وفرض ضرورة ومصلحة ملحة للمقارنة والتقييم ما بين مشروعين فلسطينيين، أبى السيد أبو مازن، وأصرّ على أن لا يجتمعا أو يتعاونا معاً على أسس الشراكة والمقاومة والديمقراطية.
أمّا الأول: فهو مشروع المقاومة بكافة أشكالها، والذي يضم فيما يبدو غالبية الشعب الفلسطيني ومنهم الكثير الكثير من أبناء فتح وكل أبناء حماس والفصائل الأخرى.
وأمّا الثاني: فمشروع التسوية وفق رؤية عباس القاصرة والغريبة والقائمة شكليًّا ونظريًّا على التعاون الأمني مع الاحتلال لإنهائه وإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس، وعمليًّا لتخليد هذا الاحتلال وتمكينه وتعزيز سياسات الأبرتايد التي يقوم بها ويضم كل النخب المهزومة والمستفيدة من تصاريح وعادات الاحتلال الغاشم، فما هي أهم هذه المعاني والدلالات وهل ما تزال المقارنة بين المشروعين سارية المفعول؟
المعنى الأول:
لماذا هذا الإصرار والعناد؟ لماذا يتجاهل أبو مازن واقع الشعب الفلسطيني وطبيعة الاحتلال الغاشم؟
أربعة عوامل رئيسة كانت كفيلة بدفع كل عاقل بإعادة تقييم مواقفه وسياساته وإجراءاته أربعة عوامل اساسية تجاهلها رئيس السلطة محمود عباس وضرب بها عرض الحائط وكأنها غير موجودة وأصر على المضي قدماً في سياساته الفاشلة والذي مثلها اجتماعه الثلاثاء 28/12/2021 مع وزير جيش الاحتلال بيني غانتس في روش هاعين أو بتسميتها الفلسطينية الأصلية مجدل الصادق وما رافق الاجتماع من ترتيبات وتسريبات وحقائق مخجلة، الأمر الذي أثار تساؤلات منطقية وحقيقية حول مدى قدرة الرجل على اتخاذ القرارات الوطنية السليمة، فهل هو مغيّب عن الساحة؟ وهل تصله كافة المعلومات اللازمة؟ أم أنه يعرف ويصر على العناد حتى لو وضعوا المسدس على رأسه كما يقول؟
إن كانت الأولى فتلك مصيبةٌ وإن كانت الثانية فالمصيبة أعظم، وإن كانت ثالثة أو رابعة فهي غرائب وألغاز تتطلب الكثير من التحليل وخاصة في الجانب النفسي.
العامل الأول هو تصاعد طغيان الاستيطان والمستوطنين، وما برقة وسبسطية إلا مثال واحد على ذلك، وبرعاية وحماية الجيش الذي يقوده بيني غانتس شخصيًّا فهل هو الخضوع لهذا الوضع الظالم هو ما أجبر أبو مازن على اللقاء؟
أم أنه الوقوع في أسر الفكرة الخاطئة والخطيئة والتي تجعل من غانتس يساريًّا ويريد ولكنه لا يستطيع إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية وعاصمتها القدس، وكلا الأمرين كارثة، فالخضوع والاستسلام مرفوض والوهم والضلال منبوذ ومن يدفع الثمن في كلا الحالتين هو الوطن والمواطنين.
العامل الثاني
تزايد المؤشرات والتأكيدات بعدم وجود أي أفق سياسي للعلاقة مع الاحتلال مع كل التحفظات على ماهية الأفق السياسي ومدى الموافقة عليه في ظل بايدن من جهة والأهم في ظل الوضع السياسي الراهن في "إسرائيل" والذي يحمل في طياته خيارين اثنين لا ثالث لهما وذلك خلال السنوات القادمة:
الأول: هو خيار حكومة بينت لبيد الهشة.
والثاني: حكومة يمين أكثر تطرفاً وعلى كلا الوجهين وفي ظل هذين الخيارين لا يمكن التقدم في عملية سياسية ذات معنى وستبقى الأمور في إطار المعادلة الأمريكية الإسرائيلية القائمة على قاعدة: "أعطي للسلطة كل، أو الكثير مما لا يؤثر على قوة الاحتلال وتصاعد الأبرتايد"، أي تثبيت فكرة عدم التناقض بين (دعم السلطة في وظيفتها الحالية) إلى جانب دعم الأبرتايد والاحتلال؛ بل قد تكون الأولى شرطاً للثانية، أو أنّ كليهما لا يعيش دون الآخر، وليختر القارئ الجواب الصحيح.
بمعنى آخر فإنّ سقف مشروع سلطة أبو مازن لا يتعدى التعاون الأمني والاقتصادي كما ظهر في نتائج اللقاء أو بعض التسهيلات الأمريكية كما يظهر من احتمالية فتح مكاتب المنظمة في واشنطن، كتعويض عن موضوع تجميد فتح القنصلية الأمريكية في القدس وبعد ذلك؛ فليذهب المشروع الوطني وتاريخ فتح النضالي إلى حيث يريد.
العامل الثالث:
فهو تراجع وتدهور شعبيه أبو مازن وتآكل شرعيته الوطنية والأخلاقية والقانونية، فالرجل على أبواب التسعينات من عمره (87 عام) وتُظهر كل استطلاعات الرأي العام الفلسطيني ومواقف وتحليلات واستنتاجات الخبراء والمختصين، بأن الشعب الفلسطيني يطالبه بالاستقالة بعد فشله في تحقيق أبسط أهداف الشعب الفلسطيني، بل على العكس تماماً فإنّ سياساته تسهم في تعزيز معاناة الفلسطينيين وهضم حقوقهم الإنسانية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
يخطئ السيد أبو مازن إن اعتقد أنه أوعى وأذكى من معظم أبناء شعبه، أو أنه يقودهم نحو مصلحتهم التي لا يدركونها، كما يخطئ السيد أبو مازن ثانيةً إن اعتقد أنّ تأييد المنظومة البيروقراطية في السلطة المستفيدة والجبانة في غالبية الأحوال إضافةً إلى دعم وتماسك الأجهزة الأمنية يكفيان لبقاء سيطرته على مقاليد الأمور، رغماً عن إرادة الشعب وتوجهاته، فللشعوب عموماً والشعب الفلسطيني الثائر خصوصاً طرق إبداعية لتحقيق إرادتها في الحياة الحرة والكريمة بعيداً عن الاحتلال.
العامل الرابع:
فإلى جانب طغيان الاحتلال ومستوطنيه بقيادة غانتس وانعدام أي أفق سياسي معقول وتآكل شعبية وشرعية أبو مازن، يبرز العامل الرابع مهمًّا كأحد أهم المعطيات التي يتجاهلها أبو مازن في سياساته، وهي تصاعد مقاومة أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وغزة والشتات، وبأشكالها وأنواعها الشعبية كافة، كبرقة وبزاريا وسبسطية وبيتا وغيرهم والطعن والدهس وإطلاق النار، ومناورات المقاومة في قطاع غزه، والتي كان آخرها الركن الشديد.
كل هذا يعني أنّ شعبنا الفلسطيني كافة يرفض سياسات التسوية والتعاون الأمني التي فشلت في تدجين هذا الشعب أو جعله يتخلى عن حقه وواجبه في المقاومة للدفاع عن الحق في الحرية والاستقلال، وقد أكدّ باحثون في معهد ترومان ومنهم روني شكيد للقناه 11 بالأمس أنّ تراجع شرعية أبو مازن ومؤسساته الرسمية في فتح والمنظمة يترافق مع زيادة ملحوظة في المشاعر والمواقف الوطنية الفلسطينية المتدفقة ويحذر أن حماس هي المستفيد الأول من هذا الأمر.
إنّ تجاهل أبو مازن لهذه العوامل زاد من قوة الرأي القائل، بأن مشروعه ليس مشروعاً وطنيًّا تاريخيًّا؛ بل شخصيًّا ضيقاً صغيراً.
وفي ختام هذه النقطة يأمل كاتب هذه السطور كباقي أحرار الشعب الفلسطيني ولكننا (لا نتوقع أن يتراجع السيد أبو مازن ويدرك المتغيرات ويواجه التحديات)، وكما قيل في المثل العامّي (الي قبّع قبّع والي ربّع ربّع ).
المعنى الثاني:
لماذا الثبات رغم التضحيات ولماذا المقاومة رغم المخاطر والعقبات، قد يستغرق بعض المحتلين أو أعوانهم أو بعض الجبناء والمضللين كيف ولماذا يصر الفلسطينيون على المقاومة؟
لماذا سيف القدس ودرع القدس والركن الشديد والعياش والمقاومة؟
ماذا حققت لكم غير الحصار والمعاناة في قطاع غزة والاعتقال والإصابات والاستشهاد في الضفة والشتات والمعاناة في كل مكان، هل حررتم فلسطين؟ أم استرجعتم القدس والأقصى؟
والإجابة أن هناك أربعة عوامل ومبررات تجعل من المقاومة ضرورة ملحة ومصدر حيوية لا بد منها:-
أولاً:
يقاوم الشعب الفلسطيني لإيمانه بعدالة قضيته وبأنها تستحق كل التضحيات فإن لم تنجح في تحقيق أهدافها المشروعة فهي على الأقل تعبر عن إنسانيته وكرامته الإنسانية وهي جزء أيضاً من الفطرة السليمة.
ثانياً:
يقاوم الفلسطينيين أو معظمهم لأنهم يدركون وباستمرار أن طبيعة العدو الصهيوني، لا تسمح بالحلول الوسط أو إمكانية التعايش فهو احتلال استيطاني إحلالي يسعى للقضاء على الشعب الأصلي من الجوانب السياسية والثقافية وغيرها كافة.
ثالثاً:
تحقق المقاومة لشعبها إنجازات واضحة وإن كانت محدودة، لكنها في مجال الصبر والصمود في مواجهة الظلم والطغيان كبيرة.
رابعاً:
تقوم المقاومة بتدفيع الاحتلال ثمنا لجرائمه وتفضحه أمام نفسه وأمام العالم، فهي تحاول باستمرار ويكفيها أحيانًا شرف المحاولة أن تواجه المحتل وتحبط مخططاته وهذا هو البديل عن الذل والاستكانة.
هكذا ينسجم المقاوم مع نفسه، ومع ضميره، ومع دينه، ومع أخلاقه، ومع حضارته ومجتمعه، (الحر يموت مرة، والجبان يموت ألف مرة ) ومن الضروري أن تراجع المقاومة نفسها باستمرار للتعديل والإصلاح والتقويم خاصة في أوقات الأزمات وعدم القدرة على تحقيق الأهداف، هكذا تتقدم المقاومة وهكذا يتراجع المساومون على حقوق الشعب الفلسطيني.