فلسطين أون لاين

​رضيعٌ فطمه الموتُ في "سجن غزة"

...
والد الطفل الشهيد براء غبن - تصوير / عمر الإفرنجي
غزة - نبيل سنونو

وأخيرًا، سيأتي "العيد المزدوج" الذي ينتظره محمد غبن بولادة طفله البكر براء، وعيد الفطر السعيد. حتى طفلته ذات العام الواحد، كانت تشير إلى بطن أمها وتقول لها الحروف التي يُمكِّنها الفرحُ من نطقها: "بُبُّو (أي بيبي Baby). كان ذلك هو ما يريده محمد وطفلته وأفراد عائلته أجمعين، لكنَّ الحصار كان له رأي آخر هو مقابلة هذا "الحلم" بالموت.

في رمضان كان الحلم يوشك على التحقق. الخمسينية "أم محمد" "طارت" إلى المستشفى بزوجة ابنها حينما أصابها وجع الولادة.

"جاءها الوجع، وطرت بها هرولةً إلى المستشفى، وعند الرابعة والنصف كانت قد وضعت طفلها، كان فرحًا ويحرك رجليه ويديه.. كان ناصع البياض وعيناه المفتوحتان تبرقان جمالا.. قلت بعد تنهيدة ارتياح: الحمد لله".

حاولت التقاط أنفاسها. وتابعت في جلسة "فضفضة" مع صحيفة "فلسطين": "جلست في الخارج فرِحة ومبسوطة، هذا هو أول طفل ذكر لابني الكبير محمد، الذي درس التمريض، وكل أبنائي أهتم بهم كثيرًا وأحرص على تعليمهم، منهم من درس خدمة اجتماعية، وآخر في مدرسة خاصة، أتعب جدا وأشقى لأجلهم".

هكذا تُكرِّم الإنسان، وتنظرُ إليه نظرة حانية لاسيما الأطفال، فما بالنا- تخاطبنا أم محمد- ببراء، الطفل البكر لابنها الأكبر؟

كان قلبها بدقات متسارعة فرحًا بقدوم حفيدها، ليس أقل من فرح شقيقته التي كانت تنتظره رغم صغر سنها، على أحر من الجمر، وإذا ما رأت رضيعا قبَّلته.

تلك الليلة كانت في 20 يونيو/حزيران 2017. جاء فيها براء إلى هذا العالم، لكن لما حاولت أمه إرضاعه لم يتمكن من الرضاعة، "فذهبنا به للحضانة للدكتور المعالج" –والكلام هذه المرة لوالده- وهناك أجريت للطفل بعض الإجراءات الطبية، هي عبارة عن "فحص الإيكو".

الوالد العشريني، قال إن هذه الإجراءات الطبية، أظهرت أن الشريان التاجي لدى الطفل مسدود بنسبة 90%، وأنه يحتاج إلى عملية فورية في نفس اليوم.

توقع الطبيب حسبما أفاد الأب، أن تكون المدة التي يمكن للطفل البقاء فيها على قيد الحياة هي ثلاثة أيام فقط لو لم يتم إجراء العملية اللازمة له، وهو ما يوجب البدء بإجراءات تحويله إلى الضفة الغربية لإجرائها دون تأخير.

في غزة، أكد غبن أن وزارة الصحة "ساعدتنا كثيرا"، وأنه حصل على نموذج التحويل الطبي، وتم عمل كل الإجراءات، ووصل ملف الرضيع إلى رام الله.

لكن يبدو أن الأمر كان مختلفا لدى السلطة في رام الله، حيث تواصل مع العديد من الشخصيات في وزارة الصحة هناك –وفق تأكيده- لكن جرى منع الطفل من تلقي العلاج خارج قطاع غزة.

وتواصلت العائلة مع مستشفى المقاصد في القدس، وظلت تنتظر ردا من رام الله بالسماح بسفره، دون جدوى.

"أنا وخالي وأمي وأبي وجدتي كل يوم كنا نكلّم (نجري اتصالات)، اتصلنا حوالي 300 ألف مكالمة (في إشارة رمزية للجهد الذي بذله) من اليوم الأول لولادته وحتى ثمانية أيام، نتصل ولا يعطوننا ردا".

ولاحقا وصلته معلومة من مصادر قريبة من المستشفى، أن طفله ممنوع من السفر من غزة بتحويلة طبية.

واتهم غبن "المسؤولين الكبار في رام الله" بمنع الرضيع من السفر، وأنه ليس الأول الذي يتم منعه، بأمر من حكومة د. رامي الحمد الله، حسبما وصله من معلومات.

"نعم، أنا أتهم السلطة في رام الله"؛ قال غبن، مضيفا: "في غزة كل الإجراءات تم إنجازها في أقل من ثلاث ساعات".

تلقى الرضيع الرعاية الطبية في العناية المركزة في مستشفى الشفاء بغزة، حيث مكث –دون حول ولا قوة منه- ثمانية أيام في انتظار السماح له بالسفر، لم يتمكن خلالها من الحصول على موافقة من رام الله.

"قاوم" هذا الرضيع كثيرا و"جاهد" حتى يبقى على قيد الحياة طيلة ثمانية أيام، لكن الوقت لم يكن في صالحه، في ظل الحالة الصحية الحرجة التي أصابته.

انقطاع الأمل

عند الثانية والنصف في اليوم الثاني، قرأت جدة الطفل خبرًا عبر التلفاز: "استشهاد الرضيع براء غبن.."، فانقطع الأمل الذي كان يراود العائلة بعلاجه.

تبددت أحلام الجميع، بمن فيهم الطفلة التي كانت تنتظر شقيقا لها. "انحرقت كثيرا (أي حزنت) على الطفلة الصغيرة"؛ قالت الجدة.

والد الطفلة لا يجد كلمات يعبر فيها عن شعور أبٍ انتظر ابنه البكر ثم مُنِع بفعل فاعل من السفر، لتوافيه المنية سريعا.

"كانت الفرحة كبيرة في البيت، وزعنا الحلويات وزارنا الناس، وكان أملي كبيرا، لكن تفاجأنا بأن الرضيع لديه مشكلة في القلب، وتأملنا أن يسافر للعلاج.."، تابع حديثه.

وأكد أن أطفالا آخرين، أجروا عمليات طبية مشابهة ناجحة خارج قطاع غزة، أنقذتهم من الموت. وقال: "العلاج موجود في رام الله، لكن الُحكَّام الظلمة (في إشارة للسلطة) لم يسمحوا لابني بأن يتعالج".

ينوي الوالد اللجوء إلى القانون لمحاسبة من منع رضيعه من السفر لتلقي العلاج خارج القطاع، قائلا: "حرام أن يحرموه من العلاج. هو طفل. ما ذنبه؟".

براء انتقل إلى جوار ربه، لكن الأنظار الآن تتجه إلى من هم مثل براء من الأطفال الرضع الذين لا يتمكنون من السفر للعلاج في الخارج.

وبينما كانت أم محمد تقص الحكاية التي تحمل معالم الجرح الغائر في قلبها، قالت: "أناشد كل مسؤول، وكل صاحب اختصاص أن يعمل على سفر هؤلاء الأطفال بأقصى سرعة".

وأضافت: "حق الأطفال أن يتم تحييدهم عن السياسة"، مطالبة "بتحييد الصحة والتعليم عن السياسة".

وتابعت: "دخلت إلى الحضانة ورأيت حالات أخرى، لكن كانت حالة طفلنا الصحية أسوأها.. كانت التحويلة الطبية جاهزة (في غزة) وكنا نعتقد أنه سيتم سفره فورا".

وأمس، أكد الناطق باسم وزارة الصحة في غزة د.أشرف القدرة عبر صفحته في موقع التواصل "فيس بوك"، أن الوضع الصحي لمرضى التحويلات العلاجية في تفاقم مستمر. كما قال: "فقدان ثلاثة أطفال من فلذات أكبادنا في أقل من 24 ساعة كشف اللثام بشكل فاضح عن حقيقة الممارسات المشوهة وطنيا والدور اللا أخلاقي و اللا إنساني الذي تؤديه سلطة رام الله مع الاحتلال الصهيوني"؛ وفق تعبيره.

لكن الناطق باسم وزارة الصحة في رام الله، أسامة النجار، حمل في تصريح صحفي، الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن التأخير في خروج المرضى للعلاج خارج قطاع غزة.

الآن، لا شيء يمكنه تعويض العائلة بعد وفاة رضيعهم جراء سياسة تشديد الحصار التي تريد لغزة أن تتحول إلى ما يشبه "سجنا". إنهم يرددون: "حسبنا الله ونعم الوكيل".